‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د مصطفى غَلــــمَــان: الإعلام بين قبضة السلطة وسوق الرأسمال.. حين يُختزل الضمير المهني في دفتر شروط الإعلانات

ليس أخطر على حرية الفكر من أن تتحول الكلمة إلى سلعة، ولا أشد إيلامًا على الوعي الجمعي من أن يُختزل الضمير المهني في دفتر شروطٍ تنظمه السلطة وتراقبه المصالح. تلك هي المفارقة التي تَكشفها اليوم حكومة أخنوش، وهي تُمرّر في غفلة من الضمير الوطني، مشروع القانون المتعلّق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة، مشروعٌ لا يُعيد فقط صياغة البنية التنظيمية للمؤسسة، بل يعيد تشكيل المشهد الإعلامي وفق هندسة جديدة، تُفرغ الصحافة من استقلاليتها، وتُدرجها في منظومة الضبط السياسي والاقتصادي.

لقد بدا واضحًا أن فلسفة المشروع تنهل من منطق السيطرة لا من روح الإصلاح. فبدل تعزيز آليات الانتخاب والتمثيل الذاتي للجسم الصحفي، يتم نسفها من الداخل عبر هندسة جديدة للعضوية تُقاس بمعيار رقم المعاملات، أي بمعيار السوق لا بمعيار الكفاءة أو المصداقية المهنية. وبدل أن يُحتكم في توقيف الصحف إلى القضاء باعتباره سلطة مستقلة، يُمنح هذا الحق للمجلس ذاته، في سابقةٍ تُكرّس الجمع بين الخصم والحَكم، وتحوّل مؤسسة التنظيم الذاتي إلى جهاز تأديبي فوقي.

إن هذا المشروع لا يمكن فصله عن السياق العام الذي تتعامل به السلطة مع الحقل الإعلامي. سياق يقوم على تحويل الإعلام إلى أداة للضبط الناعم، تُخدّر الوعي بدل أن تُنيره، وتُعيد إنتاج الخطاب الرسمي بدل مساءلته. فالمسألة هنا ليست تقنية أو قانونية فحسب، بل هي فكرية وسياسية بامتياز. إنها إعادة صياغة لعلاقة الدولة بالمعرفة والتمثيل الرمزي، حيث تسعى السلطة إلى أن تكون هي المُتحكم فيمن يتكلم، وكيف يتكلم، ولمن يتكلم.

وإذا كانت الصحافة، كما يقول بيير بورديو، “فضاءً لصراع رمزي حول تعريف الحقيقة”، فإن الحكومة اليوم تحاول أن تغلق هذا الفضاء، وأن تحوّل النقاش العمومي إلى رأسمال منضبط تديره شبكات النفوذ والإشهار، لا ضمير المهنة ولا حسّ المسؤولية الوطنية.

ولعلّ ما يؤكد هذا المنحى هو المناظرة الوطنية للإشهار التي تُعدّها الوزارة الوصية بالدار البيضاء، والتي يُراد منها، بحسب مؤشرات عديدة، أن تكون محطة لإعادة توزيع الكعكة الإشهارية على المقاس السياسي والاقتصادي، وتكريس تحالفٍ بين الإعلام التجاري والسلطة التنفيذية، بما يضمن إخضاع الخط التحريري لمنطق السوق أكثر مما يضمن استقلاله عن الدولة.

إن ربط مصير المقاولات الإعلامية الصغيرة والمتوسطة بمعيار “الجدوى الاقتصادية” أو “رقم المعاملات” يُخفي، في جوهره، محاولةً لإقصاء الأصوات الحرة التي لا تملك سوى كفاءتها وتجربتها. فالدولة التي تتحدث عن “تنظيم المهنة”، تغفل أنها تعيد إنتاج منطق الكمبرادور الإعلامي، حيث لا صوت إلا لمن يملك رأس المال أو القرب من دوائر القرار.

بهذا المعنى، يصبح المشروع الجديد ليس مجرد تعديل قانوني، بل علامة على انزياحٍ هيكلي في علاقة الصحافة بالسلطة. من الصحافة كسلطة رابعة مستقلة، إلى الصحافة كملحق إداري أو تجاري للسلطة التنفيذية. ومن الإعلام كأداة للتنوير والمساءلة، إلى الإعلام كواجهة تجميلية للنظام النيوليبرالي الذي يربط كل شيء بمعيار الربح والمردودية.

إن ما يُخيف في المشهد ليس فقط هذا التحول في النصوص، بل في الوعي الذي يُهيمن على صُنّاع القرار. وعي يرى في الحرية خطرًا يجب ضبطه، لا طاقةً يجب توجيهها، وفي الصحفي مجرد عامل تواصل، لا فاعلًا معرفيًا يسهم في بناء الرأي العام.

إن ما يحدث اليوم هو، في جوهره تجريفٌ بطيء لحق المجتمع في معرفة الحقيقة، واستبدالها بآليات “التأطير المسبق” التي تحدد المسموح والممنوع في الخطاب العمومي. إنها محاولة جديدة لإعادة ترويض الذاكرة الوطنية، وإعادة تعريف حدود الممكن في التعبير عن الذات الجماعية.

ومن هنا، فإن الدفاع عن استقلالية المجلس الوطني للصحافة ليس دفاعًا عن فئة مهنية فحسب، بل عن أفقٍ ديمقراطي كامل، وعن الحق في أن تكون الكلمة حرة، غير مرهونة لا بسلطة ولا برأسمال.

فالإعلام الحر هو آخر ما تبقى من مظاهر التوازن في مجتمعات تتآكل فيها المؤسسات الوسيطة، ويُخشى أن يصبح، كما أراده المشروع الجديد، مجرد مرآة تعكس صورة السلطة، لا مرآة تعكس صورة الحقيقة.

في نهاية هذا المشهد، لا تبدو معركة الصحافة مجرد نزاع حول قانون أو مؤسسة، بل صراعًا على المعنى ذاته. من يملك الحق في قول الحقيقة؟ ومن يملك سلطة تأويلها؟ فحين تصبح الكلمة مرهونة بميزان الربح، يفقد الخطاب قيمته، وتغدو اللغة أداة طيّعة في يد النظام الاقتصادي والسياسي.

إنّ حرية الصحافة ليست امتيازًا يمنح، بل شرطًا أنطولوجيًا لوجود الوعي ذاته، لأن الكلمة الحرة هي التي تُبقي الفكر يقظًا في وجه الغفلة، وتمنح المجتمع مرآة يرى فيها ذاته بوضوحٍ مؤلم، لا بزينةٍ خادعة. فحين يُفرغ الإعلام من استقلاله، تُصاب الحقيقة بالعطب، ويغدو الواقع ذاته جزءًا من حملةٍ إشهارية كبرى، تُسوّق الوهم باسم الاستقرار، وتُصادر السؤال باسم النظام.

هكذا، في زمنٍ تتواطأ فيه السلطة والمال على إنتاج المعنى، تظل مقاومة الكلمة هي آخر أشكال النبل الممكنة. فربما لم يعُد في وسع الصحافة أن تُغيّر العالم كما حلمت ذات يوم، لكنها قادرة، على الأقل، أن تمنع الأكاذيب من أن تصير قدرًا.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button