‏آخر المستجدات‏تكنولوجيا و ميديا

الحياد الآمن… الوجه الآخر لصمت النقابة الوطنية للصحافة

عندما تتكاثر فيه أزمات الصحافة وتتعقّد فيه علاقة الإعلام بالسلطة والمجتمع، تبدو النقابة الوطنية للصحافة المغربية كصوتٍ يعلو أحيانًا ليؤكد حضوره، ثم يخفت في لحظات تتطلب الحسم والموقف. هذا التذبذب بين الانخراط والتواري جعل النقابة تبدو، في نظر جزء من الجسم الصحافي، مؤسسةً أكثر ميلاً إلى التبرير منها إلى الدفاع، وإلى التوصية بدل الفعل، خصوصًا في القضايا التي تمس جوهر المهنة ومصداقية مؤسساتها التمثيلية.

فبينما تتابع النقابة باهتمام تفاعل الصحافيين مع الاحتجاجات والجدل العمومي المرافق لها، وتثني على التزام الإعلاميين بالمهنية واحترام شروط السلامة أثناء التغطية، تغيب عنها المبادرة في القضايا البنيوية التي تشل القطاع، كأزمة المجلس الوطني للصحافة الذي لا تزال لجنته المؤقتة تدبر شؤونه رغم انتهاء صلاحيتها القانونية، وما يرتبط بذلك من إشكالات تمس شرعية التنظيم الذاتي ومبدأ التداول الديمقراطي داخل المهنة. كيف يمكن لنقابة تدّعي الدفاع عن الصحافة أن تصمت عن هذا الخلل المؤسساتي الذي يفرغ المشهد الإعلامي من أحد أهم أدواته التنظيمية؟

البيان الأخير للنقابة، وإن جاء بلغة متزنة تدعو إلى المهنية والانفتاح على النقاش العمومي، يظل محكوماً بهاجس الحياد الآمن الذي يفقده قوته النقدية. فالإشادة بتضحيات الصحافيين وتضامنها مع من تعرّض منهم للتعنيف لا يمكن أن تعوّض غياب موقف صريح من الانتهاكات المهنية، وسوء التدبير المؤسساتي، والتراجع عن الحريات الإعلامية. فالنقابة، بحكم موقعها التمثيلي، مطالَبة اليوم بأن تتجاوز خطاب “التذكير بالأخلاقيات” إلى ممارسة الضغط من أجل إصلاح القوانين والهيئات، وتفعيل آليات المحاسبة المهنية، بدل الاكتفاء بالتحذير من الترهيب أو الدعوة العامة إلى احترام القيم الصحفية.

كما أن الحديث عن “توفير بيئة مهنية تنافسية” لا يكتمل من دون الاعتراف بواقع اللامساواة بين المؤسسات، وهشاشة الأوضاع الاجتماعية للصحافيين، وغياب الحماية القانونية الكافية. فهل يمكن الحديث عن مهنية حقيقية في ظل منظومة تجعل الصحافي رهين عقوده الهشة ومحدودية أفقه المهني؟ وأين النقابة من الدفاع الجاد عن شروط العمل الكريمة باعتبارها أساس الاستقلال والتحرر من التبعية التحريرية؟

من جهة أخرى، يتجنب البيان الإشارة إلى تحديات أخلاقيات المهنة التي باتت تهدد صورة الصحافة نفسها، من التهافت على السبق دون تحقق، إلى الابتزاز الرقمي والتشهير، إلى خلط الرأي بالخبر. وهي ممارسات لا يمكن أن تُواجه بخطاب عام عن “التحلي بالمسؤولية”، بل تحتاج إلى موقف نقدي صريح يضع حدًّا للتساهل مع من يسيئون للمهنة باسمها.

إنّ أخطر ما يواجه النقابة اليوم هو فقدان دورها التاريخي كضمير مهني. فحين تغيب عن لحظات الأزمة وتكتفي بتصريحات متوازنة، فإنها تفرّغ نفسها من مضمونها النقابي، وتتحوّل إلى صوت إداري أكثر منه فاعلاً إصلاحياً. لذلك، فإنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في صياغة البلاغات بعبارات مطمئنة، بل في استعادة القدرة على تأطير النقاش المهني، وقيادة معارك الصحافيين الحقيقية في مواجهة الفساد والتضييق والرداءة.

إن النقابة التي تدعو الإعلاميين إلى التمسك بأخلاقيات المهنة مطالبة قبل غيرها بمراجعة أخلاقيات أدائها النقابي. أين الموقف من تمديد اللجنة المؤقتة للمجلس الوطني؟ أين الدفاع الصريح عن الحق في المعلومة؟ وأين النقد الجريء لتدجين الإعلام العمومي وتراجع الاستقلال التحريري؟

إنّ صمت النقابة لم يعد مجرّد حياد، بل أصبح موقفاً ضمنياً من الأزمة، يكرّس فقدان الثقة داخل الجسم الصحافي. وإذا لم تستعد النقابة دورها كقوة اقتراح ومساءلة، فستجد نفسها خارج التاريخ المهني الذي ساهمت في صنعه يوماً. فالصحافة التي تنقل الحقيقة لا يمكن أن تُدار بمنطق المهادنة، والنقابة التي لا تنتقد ذاتها تفقد مبرر وجودها.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button