
(كش بريس/خاص)ـ يبدو أن ملف التحقيق في شبهات اختلاس وتبديد المال العام داخل قناة “تمازيغت” يدخل مرحلة دقيقة تكشف عن مدى تعقّد العلاقة بين آليات المحاسبة وواقع التدبير العمومي في المؤسسات الإعلامية الوطنية. فقد قررت قاضية التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرباط إخضاع ثلاثة مسؤولين سابقين وحاليين بالمؤسسة للمراقبة القضائية ومنعهم من مغادرة التراب الوطني، في خطوة تُعبّر عن حرص القضاء على ضمان استمرار المسطرة في بيئة قانونية محكمة، دون المساس بقرينة البراءة التي تظل مبدأً أساسياً في أي تحقيق قضائي.
القرار القضائي جاء تتويجاً لمسار طويل من التقارير والملاحظات التي تضمنها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، والذي أثار شكوكا حول سوء التدبير المالي والإداري داخل القناة خلال الفترة الممتدة بين 2010 و2017، وهي مرحلة توصف بكونها من أكثر المراحل حساسية في تاريخ القناة من حيث حجم الاستثمارات والصفقات الإنتاجية. فقد أحال الوكيل العام للملك أربعة مسؤولين على قاضية التحقيق، إلى جانب أربع شركات إنتاج، في إطار بحث معمّق حول طبيعة المعاملات المالية التي ربطت القناة بهذه الشركات، ومدى التزامها بالضوابط القانونية والإدارية المفروضة على المؤسسات العمومية.
التحقيق لا يتوقف عند المسؤولية الفردية فقط، بل يمتد ليطرح أسئلة أعمق حول منظومة الحكامة داخل القطاع السمعي البصري العمومي، ومدى فعالية آليات المراقبة الداخلية والخارجية في حماية المال العام. فالقضية، وإن بدت في ظاهرها محدودة في نطاقها المؤسساتي، إلا أنها تمسّ صورة الإعلام العمومي في علاقته بالشفافية والمساءلة، وتفتح الباب أمام مراجعة شاملة لطرق التدبير والرقابة في القنوات الوطنية.
وفي تطور مرتبط بالملف، قررت قاضية التحقيق إخلاء سبيل أحد رؤساء المصالح بعد أن تبين غياب أدلة كافية تثبت تورطه، فيما أبقت على إجراءات المراقبة القضائية والمنع من السفر بالنسبة إلى المدير السابق ومسؤولين آخرين، في انتظار استكمال البحث واستجلاء حقيقة الوقائع المالية والإدارية المنسوبة إليهم.
إن المسار الذي يتخذه التحقيق اليوم يضع أمام القضاء والمجتمع معاً اختباراً مزدوجاً: اختبار الحقيقة واختبار الثقة. فبين ضرورة المحاسبة واحترام قرينة البراءة، تبرز الحاجة إلى إصلاح أعمق يرسّخ ثقافة التدبير الرشيد ويجعل من الشفافية قاعدة لا استثناء. ومن شأن ما ستكشفه نتائج التحقيق أن يعيد رسم ملامح النقاش حول أخلاقيات المسؤولية في الإعلام العمومي، ويمنح درسا جديداً في أن العدالة، حين تتحرك في صمت، قد تكون أكثر بلاغة من كل الخطب.