‏آخر المستجدات‏أخبار وطنية

جامعة فاس بين رهانات التميز الأكاديمي وحدود النموذج الجامعي العمومي

(كش بريس/التحرير)ـ يشكل تصنيف جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس ضمن أفضل الجامعات العمومية المغربية في التقرير الدولي لـ “تايمز هاير إيديوكيشن 2026”، لحظة رمزية تتجاوز البعد الترتيبي البحت، لتلامس عمق السؤال المتعلق بمستقبل الجامعة المغربية العمومية في زمن التنافسية المعرفية والرقمنة والعولمة الأكاديمية.

فقد أدرج التصنيف الجامعة ضمن الفئة (1500-1201) إلى جانب جامعات ابن طفيل، وابن زهر، ومحمد الخامس، وهو ما يعكس استقرارًا مؤسسياً في أداء هذه الجامعات، بقدر ما يكشف عن توازن هش بين الطموح والقيود البنيوية التي ما تزال تحدّ من قدرة التعليم العالي المغربي على الارتقاء في سلم التصنيفات العالمية.

بين الاعتراف الدولي والمحدودية الهيكلية

يعتمد التصنيف على خمسة مؤشرات رئيسية: جودة التكوين، بيئة البحث، جودة الإنتاج العلمي، الانفتاح الدولي، ونقل المعرفة. وهي معايير تكشف عن قدرة المؤسسات الجامعية على الاندماج في الدورة الكونية للمعرفة.

وإذا كانت جامعة فاس قد استطاعت الحفاظ على موقعها الثابت للعام الثامن على التوالي، فإن هذا الثبات يعكس من جهة رصانة البنية البحثية والتكوينية التي راكمتها، ومن جهة أخرى صعوبة تجاوز سقف المنافسة الدولية في ظل محدودية التمويل وضعف الشراكات البحثية الكبرى، وهي عوامل تظل حاسمة في ترتيب الجامعات عبر العالم.

الجامعة المغربية بين الانفتاح والتوطين

تُظهر التجربة أن جامعة سيدي محمد بن عبد الله لم تكتفِ بالانغلاق داخل محيطها المحلي، بل عملت على ترسيخ نموذج للجامعة المنفتحة، عبر برامج للتعاون الأكاديمي والتبادل العلمي، ما جعلها أكثر حضورًا على المستوى الدولي.

لكن هذا الانفتاح يطرح بدوره سؤالًا مزدوجًا:

هل يكفي الانفتاح على الخارج لتعويض ضعف البنية التحتية البحثية في الداخل؟

وهل يمكن للجامعة المغربية أن تحافظ على هويتها كمؤسسة عمومية، دون أن تنزلق إلى منطق السوق الأكاديمي الذي يطبع التعليم العالي العالمي؟

من الجامعة إلى “المجتمع المعرفي”

إن الاعتراف الدولي الذي نالته جامعة فاس يعيد إلى الواجهة النقاش حول دور الجامعة في المجتمع: هل هي مجرد مؤسسة للتدريس وإنتاج الشهادات، أم فضاء لتكوين المواطن والباحث والمفكر؟

تؤكد الجامعة في بلاغها أن هذا التصنيف “ينعكس إيجابًا على مصداقية خدماتها وقابلية تشغيل خريجيها”، وهي إشارة إلى البعد الاقتصادي الوظيفي للتعليم الجامعي. غير أن القيمة الحقيقية لأي جامعة لا تُقاس فقط بمدى تشغيل خريجيها، بل أيضًا بقدرتها على إنتاج فكر نقدي، وإبداع معرفي، واستقلال أكاديمي يجعل منها قوة اقتراحية في المجتمع.

رهان البحث العلمي والابتكار

تضم جامعة سيدي محمد بن عبد الله 13 مؤسسة جامعية، و100 ألف طالب، و1800 أستاذ باحث، ما يمنحها قاعدة بشرية ضخمة يمكن أن تشكل رافعة للبحث والابتكار. غير أن هذا الإمكان يصطدم بواقع نقص التمويل، وضغط الأعداد، ومحدودية البنية التجهيزية.

ومع ذلك، فإن جهودها في تنويع المسالك التكوينية (نحو 400 مسلك) وإنتاج أكثر من 13 ألف خريج سنويًا، تمثل مؤشرات على دينامية مؤسساتية تحاول التوفيق بين الكم والنوع، وبين التكوين الأكاديمي ومتطلبات سوق العمل.

جامعة فاس نموذجًا للجامعة العمومية الممكنة

من خلال هذا المسار، تبدو جامعة سيدي محمد بن عبد الله نموذجًا لما يمكن تسميته بـ “الجامعة العمومية الممكنة”: مؤسسة تعمل ضمن إكراهات التمويل والتأطير، لكنها تحاول صياغة مشروع علمي وطني منفتح على العالم، دون أن تفقد انتماءها إلى المجال الاجتماعي المغربي.

فقد ظلت على مدى ثمانية أعوام ضمن الفئة ذاتها في تصنيفات “تايمز”، وهو ما يبرز ثبات الأداء مقابل بطء الارتقاء، لكنه يطرح أيضًا سؤالًا حول ضرورة إعادة تعريف مفهوم التميز الجامعي في السياق المغربي: هل التميز هو بلوغ المراتب العليا، أم القدرة على الاستمرار والمراكمة رغم محدودية الوسائل؟

ـــــــــــــــــــــــ

إن حضور جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس في التصنيف الدولي ليس مجرد حدث أكاديمي، بل مرآة لتحول الجامعة المغربية في علاقتها بالعالم والمعرفة والمجتمع.

فالجامعة اليوم تجد نفسها أمام تحدي مزدوج: أن تكون فاعلاً علميًا عالميًا، وفي الآن ذاته حاملة لمشروع تنموي وطني.

وبين الاعتراف الدولي والرهان المحلي، تبقى الحاجة ملحّة إلى إستراتيجية جامعية وطنية جديدة تجعل من البحث العلمي والابتكار قاطرة فعلية للنهوض المعرفي، لا مجرد مؤشر تصنيفي عابر.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button