
(كش بريس/خاص)ـ
في الوقت الذي يفاخر فيه المغرب بتقدمه في مؤشرات محاربة الفقر والتنمية الاجتماعية، يلوّح في الأفق خطر صامت يزحف ببطء لكنه بثبات: أزمة الماء.
تقرير حديث صادر عن مؤسسة Afrobarometer دق ناقوس الخطر، محذرًا من أن تفاقم ندرة المياه الصالحة للاستعمال المنزلي قد يقوّض ما حققته المملكة من مكاسب في العقد الأخير، ويعيد شبح الفقر إلى الواجهة، لكن هذه المرة من نافذة العطش.
الماء… حين يصبح خط الفقر الجديد
الأرقام الواردة في التقرير ليست مجرد مؤشرات تقنية، بل ملامح لتحول اجتماعي مقلق:
أربعة من كل عشرة مغاربة (39%) واجهوا نقصًا في المياه النظيفة خلال العام الماضي، وربع السكان تقريبًا يعانون من هذا النقص بشكل متكرر أو دائم.
ولم يعد الفقر يُقاس فقط بالدخل أو التعليم، بل صار يُقاس أيضًا بمدى توافر الماء في البيت.
في القرى والمناطق شبه القاحلة، تتحول كل قطرة ماء إلى رحلة يومية من العناء، حيث تضطر الأسر الفقيرة إلى شراء المياه بأسعار مرتفعة أو قطع مسافات طويلة لجلبها، ما يضاعف الأعباء المالية ويستنزف الطاقة والصحة، خصوصًا لدى النساء والفتيات.
هكذا أصبح الماء، في بلدٍ بنى حضارته على السواقي والعيون والأنهار، رمزًا للفوارق الاجتماعية الجديدة.
مفارقة مغربية: ريادة في مكافحة الفقر… وتراجع في الأمن المائي
يضع التقرير المغرب ضمن أفضل الدول الإفريقية أداءً في مكافحة الفقر، لكنّه في الآن نفسه يحذّر من أن أزمة المياه قد تنسف هذا التقدم.
فالأمن المائي هو الوجه الآخر للأمن الاجتماعي، وحين تضعف قدرة الناس على الوصول إلى الماء، تتهاوى سلاسل التنمية الواحدة تلو الأخرى: من الزراعة إلى الصحة، ومن التعليم إلى الاستقرار الأسري.
وإذا كانت نسبة انعدام الأمن المائي في المغرب (39%) أقل من المعدل الإفريقي (44%)، فذلك لا يعني أن الوضع مطمئن. فالجفاف المستمر منذ خمس سنوات، وتزايد الضغط السكاني، وتغير المناخ، كلها مؤشرات على أزمة تتعمق أكثر مما تتراجع.
ثقة المواطن… ومحدودية الفعل الحكومي
اللافت أن 55% من المغاربة عبّروا عن رضاهم تجاه جهود الحكومة في تدبير الموارد المائية. إنها ثقة حذرة، تُعبّر عن أملٍ في قدرة الدولة على احتواء الأزمة، لكنها أيضًا تحمل تساؤلًا ضمنيًا:
هل تكفي السياسات الحالية لإنقاذ المستقبل المائي؟
برامج مثل المخطط الوطني للماء 2020-2050 والبرنامج الوطني للتزود بالماء الصالح للشرب ومياه السقي (2020-2027) تعكس إرادة واضحة، واستثمارات ضخمة تتجاوز 100 مليار درهم، لكن النجاح الحقيقي لن يُقاس بعدد السدود أو محطات التحلية، بل بمدى وصول الماء إلى كل بيت في البادية والمدينة على حد سواء.
حين يلتقي المناخ بالاقتصاد
من الواضح أن المغرب يقف على الخط الأمامي لتأثيرات التغير المناخي.
تراجع التساقطات المطرية بأكثر من 30% في بعض المناطق، واستنزاف الموارد الجوفية، يضعان البلد أمام معادلة صعبة:
كيف يوازن بين حاجات الزراعة — التي تستهلك أكثر من 80% من الموارد المائية — وبين حاجات السكان والمدن والصناعة؟
الجواب لا يمكن أن يكون تقنيًا فقط، بل سياسيًا واجتماعيًا أيضًا. فالماء ليس مجرد مورد، بل حق إنساني وعدالة مجالية، ومعيارٌ لمدى قدرة الدولة على ضمان المساواة بين مواطنيها.
عطش الطبيعة… وعطش العدالة
في العمق، لا يتعلق الأمر فقط بندرة الماء، بل بمدى عدالة توزيعه.
فالأزمة تذكّرنا بأن التنمية ليست مجرد مؤشرات رقمية أو تقارير دولية، بل تجربة يومية يعيشها الناس.
حين يصبح المواطن مجبرًا على الاختيار بين لقمة العيش وقنينة الماء، نكون أمام إنذار وجودي، لا اقتصادي فقط.
إن المغرب، وهو يسعى لبناء نموذج تنموي جديد، يحتاج إلى ثورة مائية حقيقية:
ثورة في إدارة الموارد، في السلوك الاستهلاكي، في التعليم البيئي، وفي تفعيل الرقابة على الاستغلال المفرط للمياه في الفلاحة والصناعة.
ما بعد العطش
أزمة الماء في المغرب لم تعد شأنًا بيئيًا فحسب، بل تحولت إلى تحدٍ حضاري وأخلاقي.
فالماء، الذي كان في الذاكرة المغربية رمزًا للكرم والخصب والبركة، صار اليوم مرآة لحدود النموذج التنموي القائم.
وما لم تتحول إدارة الماء إلى أولوية وطنية جامعة تتجاوز الخطابات الموسمية، فقد نجد أنفسنا في مواجهة عطشٍ مزدوج: عطش الطبيعة… وعطش العدالة.