‏آخر المستجداتقضايا العدالة

تعديل قانون التعويضات، بين تحسين القيم المالية وتحدي العدالة التطبيقية

(كش بريس/التحرير)ـ تطرح التصريحات الأخيرة لوزير العدل عبد اللطيف وهبي، حول رفع التعويضات الممنوحة لضحايا حوادث السير، أسئلة جوهرية تتجاوز الجانب التقني للمراجعة المالية إلى فلسفة التعويض ذاتها: هل نحن أمام إصلاح يعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية، أم أمام تصحيح جزئي في معادلة اقتصادية مختلّة منذ أربعة عقود؟

فحسب ما أعلنه الوزير أمام لجنة العدل والتشريع، فإن الحكومة تتجه إلى رفع الحد الأدنى المعتمد في احتساب التعويضات بنسبة 54% تدريجيًا، ليصل من 9270 درهمًا إلى 14270 درهمًا خلال خمس مراحل. وهو قرار، وإن بدا في ظاهره خطوة تصحيحية منصفة، إلا أنه يثير تساؤلات حول مدى قدرته على معالجة جذور الاختلال البنيوي الذي طبع نظام التعويض منذ صدور ظهير 1984.

من زاوية أولى، يحمل المشروع بعدًا اجتماعيا تصحيحيًا واضحًا، إذ يسعى إلى مواكبة التحولات المعيشية وغلاء المعيشة، من خلال فك الارتباط بنظام النقطة المرجعية في الوظيفة العمومية، واستبداله بآلية ديناميكية تخضع للمراجعة الدورية كل خمس سنوات. هذه النقلة تمثل اعترافًا ضمنيًا بأن الجمود التشريعي السابق كان مجحفًا في حق المتضررين، خصوصًا أولئك المنتمين إلى الفئات الهشة التي ظلت تتلقى تعويضات لا تغطي حتى جزءًا من كلفة الألم أو الفقدان.

لكن من زاوية ثانية، فإن تأكيد الوزير على أن هذا الرفع “لن يؤدي إلى زيادة في أقساط التأمين” يثير إشكالًا اقتصاديا واقعيًا: فمن سيمتص أثر هذه الزيادة؟ شركات التأمين، التي تُعد أحد أقوى الفاعلين الماليين في السوق، أم الدولة، أم أن الوعود بعدم الزيادة مجرد خطاب سياسي مرحلي لتفادي الاحتقان الاجتماعي؟، فالمنطق المالي يفترض أن ارتفاع قيمة التعويضات يرفع بالضرورة التكاليف الإجمالية للتعويضات المدفوعة، وهو ما سينعكس لاحقًا على تكلفة الأقساط ما لم ترافقه إصلاحات هيكلية في منظومة التأمين ذاتها.

من جهة أخرى، يحمل المشروع تحولًا نوعيًا في تصور العدالة التعويضية، من خلال الاعتراف بشرائح كانت مهمشة قانونيًا، مثل الأبناء المكفولين، والآباء الكافلين، والزوج العاجز الذي كانت زوجته المعيلة له. إنها خطوة تعكس تحولًا تدريجيًا في الوعي القانوني الرسمي نحو تنويع مفهوم “الأسرة” وتحديث منظومة التعويض بما يتلاءم مع التغيرات الاجتماعية التي عرفها المغرب.

كما أن اعتماد مبدأ حرية الإثبات للدخل الفعلي للمتضررين، يمثل اختراقًا مهمًا في سبيل الاعتراف بالاقتصاد غير المهيكل الذي يشمل ملايين المغاربة. فتمكين الحرفيين، والنساء العاملات في القطاع غير النظامي، والعمال الموسميين من إثبات دخلهم بوسائل واقعية، هو اعتراف قانوني بوجودهم الاقتصادي بعد أن ظلوا لعقود خارج الحسابات الرسمية.

غير أن الطابع الإيجابي لهذه المستجدات لا يُخفي نقائص جوهرية. فالإصلاح المقترح ما زال يدور في فلك التعويض بعد الضرر، لا في منطق الوقاية من الحوادث. إذ لا حديث عن آليات الردع، أو إصلاح البنية الطرقية، أو تطوير التربية المرورية، التي تمثل البنية التحتية الأخلاقية للسلامة الطرقية.

إن القانون في صيغته الجديدة يوسع دائرة التعويض، لكنه لا يقلص دائرة المأساة. ومن زاوية فلسفية، يمكن القول إن القيمة الأخلاقية للتعويض لا تُقاس بمبلغ المال بل بمدى تعبيره عن العدالة. فحين تتحول التعويضات إلى أرقام تُعلن في اللجان البرلمانية، دون أن ترافقها مساءلة للمنظومة الأمنية والمرورية والطبية، فإننا نعيد إنتاج نفس المعادلة القديمة بوجه أكثر تجميلاً.

وبين خطاب “الإنصاف” الذي تبناه الوزير، وواقع “اللامساواة” الذي يكشفه الواقع، تبقى المعضلة الأعمق في أن الدولة ما تزال تتعامل مع الإنسان المتضرر كمفعول به قانوني، لا كذات حقوقية يجب أن تُحاط بالحماية المسبقة قبل التعويض اللاحق.

إن مشروع القانون 70.24، في عمقه، يشكل اختبارًا حقيقيًا لقدرة السياسة العمومية على الانتقال من منطق التعويض المالي إلى منطق العدالة الكاملة التي توازن بين الكرامة الإنسانية والمسؤولية المؤسساتية.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button