‏آخر المستجداتفنون وثقافة

التوأم التونسي.. لحظة رمزية في مسار ثقافي عربي متجدد

ـ اختتام الدورة التاسعة من مبادرة تحدي القراءة العربي بدبي ـ

(كش بريس/دبي من قاصف عبد الحي)ـ اختُتمت الدورة التاسعة من مبادرة تحدي القراءة العربي في حفل مهيب بدبي، تُوِّج خلاله التوأم التونسي بيسان وبيلسان كوكة بلقب الدورة، في لحظة رمزية جسّدت اتساع الأفق العربي في احتضان الإبداع القرائي والمعرفي. غير أن هذا التتويج، بما يحمله من بعدٍ إنساني وجمالي، يتجاوز مجرد المنافسة التعليمية ليغدو علامة ثقافية على وعيٍ عربيٍّ متجدد يسعى إلى استعادة مكانة القراءة كقيمة تأسيسية في بناء الذات الفردية والجماعية.

لقد تحوّلت المبادرة، التي أطلقها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قبل عقد من الزمن، من مشروع تحفيزي محدود إلى حركة ثقافية كبرى؛ إذ ارتفع عدد المشاركين من 3.6 ملايين في دورتها الأولى إلى أكثر من 32 مليون قارئ في دورتها التاسعة، قادمين من 132 ألف مدرسة في العالم العربي وخارجه. أرقام لا تعكس مجرد نموٍّ كمي، بل تحولًا نوعيًا في تمثل القراءة كقوة ناعمة وممارسة مواطنية تكرّس قيم التفكير النقدي والانفتاح.

لكن القراءة، كما يبيّن البعد النقدي في هذا الحدث، ليست تراكماً للكتب المقروءة، بل فعل مقاومة ضد العدمية المعرفية التي كرّستها وسائل الاستهلاك السريع والمحتوى السطحي. فـ“تحدي القراءة العربي” يأتي في سياق أزمة حضارية يعيشها العالم العربي، حيث تتناقص مساحات الفكر الجاد أمام اجتياح الصورة والفرجة الرقمية. من هنا، تكتسب المبادرة معناها الحقيقي بوصفها رهانًا على الوعي قبل الكمّ، وعلى الإنسان قبل الإنجاز.

إن ما يميز هذه الدورة أيضًا هو تنوع رموزها الإنسانية: من التوأم التونسي الذي جسّد وحدة الهوية العربية في ثنائية الفكر والجمال، إلى ماريا حسن عجيل، بطلة فئة “أبطال الهمم” التي أعادت تعريف القراءة بوصفها بصيرة داخلية تتجاوز الإبصار. هذه الرموز كلها تعيد رسم صورة جديدة للإنسان العربي، القادر على الإبداع رغم الإكراهات، والمصمم على التعلم رغم العوائق.

على المستوى البنيوي، يظل التحدي الحقيقي للمبادرة في تحويل الحراك القرائي إلى مشروع مؤسساتي مستدام، لا يتوقف عند التتويجات الرمزية، بل يترسخ في المناهج التعليمية، والسياسات الثقافية، والبرامج الإعلامية. وهو ما أشار إليه محمد بن عبد الله القرقاوي حين دعا إلى “مأسسة هذا الحراك” وتخصيص وقفٍ بقيمة 500 مليون درهم لضمان استمراريته.

في المحصلة، تكشف مبادرة “تحدي القراءة العربي” أن النهضة تبدأ من الكلمة، وأن الرهان الحقيقي ليس على الكمّ بل على تكوين قارئ حرٍّ وفاعلٍ ومستنير. فبقدر ما تكرّس المبادرة احتفاءً بالقراءة، فإنها تدعو إلى مساءلة ثقافتنا حول ما نقرأ، وكيف نقرأ، ولماذا نقرأ.

تؤشر مبادرة “تحدي القراءة العربي” إلى تحوّل جوهري في السياسات الثقافية العربية، إذ تنقل الفعل القرائي من المستوى الفردي إلى مستوى المشروع الحضاري المشترك، القادر على تجديد علاقة المجتمع العربي بالمعرفة واللغة…

تؤشر مبادرة “تحدي القراءة العربي” إلى تحوّل جوهري في السياسات الثقافية العربية، إذ تنقل الفعل القرائي من المستوى الفردي إلى مستوى المشروع الحضاري المشترك، القادر على تجديد علاقة المجتمع العربي بالمعرفة واللغة… ويبدو المشروع بمثابة مقاومة ناعمة للسطحية الرقمية، وعودة إلى الجوهر الإنساني للفكر والمعرفة. فالمستقبل الثقافي للعرب لن يُبنى بالمنصات ولا بالأجهزة، بل بالعقل القارئ والإنسان المفكر الذي يمتلك القدرة على النقد والتأويل والاختيار. من هنا، تغدو هذه المبادرة أكثر من مشروع تربوي؛ إنها بيان حضاري جديد يذكّرنا بأن الأمم التي تُعلّم أبناءها أن يقرؤوا بوعي، هي الأمم التي تكتب مصيرها بكرامة، وتواجه التحولات التقنية بثقافةٍ لا تنكسر أمام تسارع الزمن الرقمي.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button