‏آخر المستجداتمال وأعمال

عجز الميزانية المغربية.. أرقام تكشف عمق الأزمة البنيوية للمالية العمومية

(كش بريس/التحرير)ـ يعكس تقرير الخزينة العامة للمملكة حول تنفيذ قانون المالية لسنة 2025 صورة دقيقة عن التوازنات الماكرو-اقتصادية التي يعيشها الاقتصاد المغربي في مرحلة دقيقة من التحول المالي، حيث أفرزت نتائج الأشهر التسعة الأولى من السنة عجزاً في الميزانية بلغ 50,5 مليار درهم، مقابل فائض إجمالي بعد احتساب القروض قدره 14,7 مليار درهم.

هذا التفاوت بين الفائض الإجمالي والعجز الفعلي يضعنا أمام معادلة مالية مزدوجة، من جهة، هناك تحسّن في تعبئة الموارد العامة (بنسبة إنجاز قاربت 85%) يعكس فعالية في التحصيل الضريبي وتدبير المداخيل؛ ومن جهة أخرى، هناك اتساع للفجوة بين الموارد والنفقات نتيجة ضغط بنود التسيير والاستثمار وارتفاع كلفة خدمة الدين.

تحليل مالي واقتصادي تفصيلي:

تُظهر الأرقام أن الموارد العادية (454,9 مليار درهم) تغطي بالكاد حوالي 90% من النفقات العادية (505,4 مليار درهم)، ما يعني أن الدولة ما تزال تعتمد بشكل كبير على القروض لتمويل العجز وضمان توازن الحسابات. فقد بلغت مداخيل القروض 102,7 مليار درهم، وهو رقم يوازي تقريباً ربع الميزانية العامة للدولة، في حين وصل استهلاك الدين العمومي إلى 37,5 مليار درهم، أي ما يقارب 7% من إجمالي النفقات.

هذا التوجه يعكس استمرار التمويل بالعجز كآلية شبه بنيوية في السياسة المالية المغربية، ويطرح تساؤلات حول استدامة الدين العمومي، خاصة في ظل تباطؤ النمو وتراجع الإنتاجية في بعض القطاعات الحيوية (الزراعة، السياحة، العقار).

قراءة في بنية الموارد والنفقات:

من زاوية التحليل البنيوي، يتضح أن الإيرادات العادية تشكّل 55,7% من الموارد الإجمالية، أي أن نصف مالية الدولة تقريباً يعتمد على الجباية المباشرة وغير المباشرة. ويبرز ضمنها الضغط المستمر على الضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الشركات، وهو ما تبرزه متأخرات السداد التي بلغت 32,8 مليار درهم في ما يخص الـTVA، و3,5 مليارات درهم لاسترداد الضريبة على الشركات.

هذه المتأخرات ليست مجرد أرقام محاسبية، بل تمثل اختناقاً نقدياً للمقاولات، خصوصاً الصغيرة والمتوسطة، وتؤثر في قدرتها على الاستثمار والتشغيل، ما يعني أن عجز الميزانية يتقاطع مع عجز في الدورة الاقتصادية ذاتها.

أما على صعيد النفقات، فإن 51,6% منها نفقات عادية (أجور، دعم، تحويلات)، بينما نفقات الاستثمار لا تتجاوز 14,4%، ما يطرح سؤال نجاعة الإنفاق العمومي ومدى مساهمته في خلق القيمة المضافة الحقيقية.

فكلما اتسع حجم النفقات الجارية مقابل تقلص الاستثمار المنتج، كلما تعمّق العجز الهيكلي بين النمو المالي والنمو الاقتصادي. المؤشرات الحالية توحي بأن التحدي المالي الأكبر في المرحلة المقبلة سيكون التحكم في العجز دون التضحية بالاستثمار العمومي.

ذلك أن أي تقليص مفرط للإنفاق سيؤدي إلى تباطؤ النمو والتشغيل، بينما أي توسّع في النفقات غير المنتجة سيزيد من عبء الدين وخدمة الفوائد. ولذلك، يتجه التفكير الاقتصادي المعاصر في المغرب نحو إعادة هيكلة النفقات العمومية في اتجاه أكثر إنتاجية، مع تحسين العدالة الجبائية وتوسيع الوعاء الضريبي بدل رفع معدلات الضرائب القائمة.

كما أن الرقمنة المالية والإدارة الجبائية الذكية يمكن أن تسهم في تقليص الفوارق بين الموارد المتوقعة والمحصّلة فعلياً، وتخفيف متأخرات TVA التي تؤثر سلباً على السيولة الاقتصادية.

عجز الميزانية المسجل في متم شتنبر 2025 لا يمثل فقط مؤشراً مالياً تقنياً، بل مرآة لوضعٍ هيكلي أعمق يتمثل في التداخل بين المالية العامة، والسياسة الاقتصادية، والحكامة الجبائية. فحين تتراجع قدرة الدولة على تحقيق فائض أولي مستدام، يصبح الدين أداة تمويل لا وسيلة استثمار، وتتحول الميزانية من محرك للنمو إلى أداة لتدبير التوازنات المؤقتة.

إن المطلوب في الأفق القريب هو تحويل منطق المالية العمومية من التسيير إلى التثمين، أي من ميزانية لتغطية النفقات إلى ميزانية تُعيد توزيع الثروة وتستثمر في الرأسمال البشري والإنتاجي، بما يجعل الاستدامة المالية رافعةً للتنمية لا قيداً عليها.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button