
(كش بريس/التحرير)ـ صدر العدد العاشر من مجلة هوية، الصادرة عن مركز الجنوب للدراسات والتخطيط الاستراتيجي بالناصرية، ليطل على القارئ في حزيران/يونيو 2025 تحت عنوان ينفتح على أفق الفكر والجرح معًا: «فلسطين: وطنًا للتفكير». عنوانٌ يشي منذ البدء بأن القضية لم تعد موضوعًا سياسيًا فحسب، بل فضاءً للتأمل وتفكيك المعاني وإعادة بناء الوعي.
هذا العدد ليس مجرّد إصدار دوري، بل محاولة لاستعادة فلسطين بوصفها مركزًا معرفيًا ورمزيًا، يتجاوز حدود الجغرافيا ليصير مجازًا للإنسانية الجريحة. وقد زيّنت أعمالُ الفنان الراحل مصطفى الحلاج صفحات العدد، فكانت لوحاته، بصيغتها التعبيرية التي تمزج الأسطورة بالذاكرة، بمثابة أرواحٍ تحرس النصوص وتمنحها عمقًا بصريًا متوهجًا.
في افتتاحيته، المعنونة بـ «فلسطين: الجرح الغائر العتيد»، يكتب رئيس التحرير صلاح حسن الموسوي رؤية تربط الاحتلال الإسرائيلي بجذور البنية الكولونيالية الغربية، وتعيد قراءة «طوفان الأقصى» بوصفه كاشفًا لمقدار التواطؤ الدولي، وامتدادًا لسياسات التطهير العرقي التي عرفها العراق عبر أسلحة محرّمة. إنّها كتابة تضع الجرح في سياقه الكوني لا المحلي.
يمضي العدد ليقدّم باقة واسعة من دراسات ومقالات لكُتّاب عرب، تعاملوا مع فلسطين كقضية معرفية وإنسانية وأخلاقية، لا كملف سياسي عابر.
علي البزاز يفتتح الملف عبر مقدمة فلسفية تدعو لإعادة تعريف مفهوم التحرير، ليس كفعل تاريخي فحسب، بل كاستعادة للضحية بوصفها مركزًا للمعنى، وكشفًا للأساليب التي تحوّل الإنسان الفلسطيني إلى هامش داخل سرديات القوة. وفي مقاليه، يفضح البزاز انحياز بورخيس للصهيونية، وكيف تماهى الخطاب الأدبي مع الخطاب العسكري عبر استعارات دينية تُخفي آلة العنف. كما يستعرض علاقة الصهيونية بالأساطير الدينية، مستندًا إلى أعمال المؤرخين الجدد الذين فككوا أسطورة الحق التوراتي.
في خطٍ فلسفي آخر، يقارب محمد الشيكر حضور القضية الفلسطينية في فكر جيل دولوز، باعتبارها صراعًا تحرّريًا يقف في وجه منطق الهيمنة وانتقائية التعاطف التي يمارسها الغرب. ويأتي نعيم جمال ليبرز دولوز بوصفه مفكرًا متمرّدًا ضد النماذج الإقصائية، فيما يقدّم عبد العزيز بومسهولي قراءة وجودية ترى المقاومة فعلًا لمواجهة العدمية التي تفرضها الأيديولوجيات العنصرية.
أما إدريس كثير، فيدعو إلى مساءلة الغيرية الفلسطينية داخل الفلسفة الغربية، مستعينًا بدريدا وليوتار وليفيناس، كاشفًا كيف حُوّل الفلسطيني إلى “آخر بلا وجه”، وكيف تسللت الصهيونية إلى خلفية الضمير الغربي لتعيد صياغة الحق والحقيقة. ويقترح في النهاية إطارًا ديمقراطيًا علمانيًا يحرّر الإنسان من ثنائيات التفوق والأسطرة.
وفي مساهمة تونسية الهوى، يكتب المهدي مستقيم عن «العيش معًا في كنف الكرامة»، مستندًا إلى فلسفة فتحي التريكي التي تعيد الاعتبار للفرد الحر فوق أي انتماء قسري.
في المسار القانوني والسياسي، يناقش عبد الحسين شعبان وضع القدس في ميزان محكمة العدل الدولية، بينما يقدم إدريس جنداري مقاربة تاريخية تكشف جذور المشروع الصهيوني بوصفه امتدادًا للاستعمار الغربي.
ويأتي صوت فلسطيني خالص عبر دراسة محمود مفلح البكر حول البعد الديني والتاريخي لفلسطين، مفندًا الادعاءات الأركيولوجية التي ترتكز عليها الرواية الصهيونية. فيما يسائل فالح مهدي الأساطير التأسيسية للديانات، ويفكك بنية السرديات التي تحاول الشرعنة الدينية للاستيطان.
في الجانب الأدبي، تمنح نداء يونس القارئ مقالتين لافتتين: الأولى حول جائزة نوبل بوصفها جهازًا لتمثيل الهيمنة، والثانية تسائل المنفى الشعري النسوي الفلسطيني، وتعيد الاعتبار لشاعرات تم تهميشهن ضمن خرائط الثقافة. ويكتب فراس حج محمد عن درويش بوصفه شاعرًا يواجه وجوده بمرآة شعره، فيما يقدّم أمير دوشي دراسة تكشف توظيف الأركيولوجيا في خدمة آلة الحرب.
وتتوالى الإسهامات الفنية والفكرية: ترجمة يوميات راشيل كوري، قراءة في التشكيل الفلسطيني، ورؤية حول حضور فلسطين في المسرح العراقي والسينما المقاومة.
هكذا يقدّم العدد العاشر من هوية فلسطين كمرآة تتقاطع فيها الفلسفة والذاكرة والسياسة والفن. ليس بوصفها جرحًا يتكرر، بل كمساحة للتفكير الحرّ، ونداء لإعادة تشكيل الوعي في وجه سرديات العالم المهيمن.
إنه عدد يضيف إلى المكتبة العربية نصوصًا تستحق القراءة، ويعيد للقضية مركزيتها بوصفها سؤالًا إنسانيًا في المقام الأول.



