
(كش بريس/ التحرير)ـ تسلّط مواقف الفيدرالية المغربية للمخابز والحلويات الضوء على واحدة من أكثر الإشكالات حساسية في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمغرب: علاقة الدعم العمومي بسوق الخبز، باعتباره مادة غذائية محورية في سلة الاستهلاك المغربي، ورافعة أساسية للاستقرار الاجتماعي. فبعد المصادقة على قانون المالية لسنة 2026 الذي خصّص أكثر من عشرة مليارات درهم لدعم الحبوب، سارعت الفيدرالية إلى توضيح عدد من الالتباسات، خصوصا بعد تصريح الوزير المنتدب المكلف بالميزانية حول كون الدعم موجها للحفاظ على ثمن الخبز في مستوى 1,2 درهم. هذا التصريح اعتبرته الفيدرالية غير دقيق، لأن الخبز، وفق منطق السوق الحالي وقانون حرية الأسعار، لا يخضع لأي تسعيرة قانونية ثابتة، وهو ما يجعل ربط الدعم بسعر محدد للخبز تبسيطاً لمعادلة اقتصادية أكثر تعقيداً.
من خلال بلاغها، تحاول الفيدرالية الإشارة إلى أن الدقيق المدعم ليس موجها حصراً لإنتاج الخبز، بل يدخل في سلسلة واسعة من الاستعمالات المنزلية والصناعية، مما يعني أن أثر الدعم يتشتت عبر منظومة إنتاجية أكبر من قطاع المخابز نفسه، وهو ما يطرح أسئلة حول فعالية السياسة العمومية في توجيه الدعم إلى الفئات والمواد التي يستهدفها فعلاً. كما تشير إلى أن المطاحن لا تلتزم دائماً بالسعر المرجعي 3,5 دراهم للدقيق، بل تستخرج من الحبوب المدعمة منتجات تتجاوز أسعارها 5 و6 دراهم، ما يعيد فتح النقاش حول مستويات الشفافية والرقابة في سلسلة إنتاج الحبوب والقمح الطري، وحول معيارية توزيع القيمة بين الفاعلين الاقتصاديين.
وتبرز النقطة الأكثر حساسية في كون قطاع المخابز، رغم أنه الحلقة التي تقدّم المنتج النهائي للمواطن، لا يستفيد من أي دعم مباشر، بينما يتحمل عبء تقلبات أسعار الطاقة والمواد الأولية وتنافسية السوق غير المهيكل. هذا القطاع الذي يشغّل آلاف العمال ويؤمّن مادة أساسية يومية للملايين، يفتقر إلى إطار قانوني واضح ينظم شروط الإنتاج والجودة والسلامة، ويحمي المهنيين من فوضى السوق ومن ممارسات الإغراق التي يُتّهم بها القطاع غير المهيكل.
تطالب الفيدرالية، في هذا السياق، بإعادة هيكلة شاملة للقطاع عبر إرساء قانون تنظيمي ودفتر تحملات خاص بالدقيق الموجه للخبز، وتثبيت بطاقة تقنية على أكياس الدقيق، واعتماد أكياس ورقية تراعي المعايير الصحية والبيئية. وكلها إجراءات تهدف إلى خلق شفافية أكبر داخل سلسلة الإنتاج، وضمان جودة الخبز، وربط الدعم العمومي بمسارات واضحة وقابلة للتتبع.
تعكس هذه المطالب تحوّلاً في خطاب المهنيين من التركيز على هامش الربح أو الضغط المهني إلى طرح رؤية أشمل لإصلاح منظومة الخبز، بما يجمع بين تطوير الجودة، وإصلاح السوق، ومحاربة الفوضى، وتحديد مسارات الدعم العمومي بشكل عقلاني يضمن أثره الاجتماعي. كما تكشف عن وعي متزايد بأن استمرار الوضع الحالي، القائم على دعم غير موجه بدقة، وسوق غير منظم، وقطاع غير مهيكل قوي، يهدد التوازن الاجتماعي وقدرة الأسر المغربية على الوصول إلى خبز ذي جودة وسعر معقول.
النقاش حول ثمن الخبز لم يعد مسألة تقنية أو محاسباتية فحسب، بل يدخل في صلب النقاش حول الأمن الغذائي، وعدالة توزيع الدعم، وجودة المنتجات، واستدامة قطاع يشكل ركناً من أركان الحياة اليومية للمواطنين. وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن البلاغ ليس مجرد رد فعلي على تصريح حكومي، بل دعوة إلى فتح ورش إصلاح شامل يعيد ترتيب أدوار الفاعلين، ويقوي الشفافية، ويضمن جودة الخبز المغربي، ويجعل الدعم العمومي أكثر نجاعة، وأكثر ارتباطاً بحاجيات المجتمع الفعلية.





