
رغم أن لقاء كان مبرمجا أول أمس مع شباب مسجد الأنصار في بروكسيل، حرصتُ على متابعة المباراة الافتتاحية لكأس إفريقيا، التي جمعت المنتخب الوطني المغربي بمنتخب جزر القمر. لم يُتح لي مشاهدة حفل الافتتاح، الذي بدا، حسب ما اطلعت عليه لاحقا عبر بعض المقاطع والانطباعات المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي، باهرا ومتميزا على مستوى التنظيم والإخراج.
في طريق عودتي إلى المنزل، تابعتُ الشوط الأول من المباراة وأنا أقود السيارة. كان تركيزي الأساس منصبّا على الطريق المظلمة، وعلى كاميرات المراقبة المنتشرة هنا وهناك، أكثر من تركيزي على مجريات اللقاء. ومع ذلك، لم أكن راضيا عن أداء النخبة الوطنية في ذلك الشوط، وربما يعود ذلك إلى الصورة الجميلة والعالية السقف التي رسّختها في أذهاننا كتيبة السكيتيوي في كأس العرب الأخيرة. والحقيقة أن ما يقتل الموضوعية في تقييم أي أداء، سواء كان رياضيا أو دراسيا، هو المقارنة الدائمة بين هذا وذاك. صحيح أن المقارنة قد تكون ضرورية أحيانا لمعرفة الأفضل، لكنها لا تخلو في كثير من الحالات من ظلم وإجحاف، لأنها تُسقط الفوارق السياقية والظروف الخاصة بكل شخص أو فريق أو مرحلة. ولعل هذا ما ينطبق أيضا على مباراة الأمس.
ما إن يُسدل الستار على مباريات المنتخب الوطني حتى يهرع كثير من الناس إلى تحليل مجرياتها، وغالبا ما يتم ذلك بطريقة انفعالية ومزاجية، تختلط فيها مشاعر الوطنية بالذاتية، وتمتزج الرياضة بالسياسة والواقع الاجتماعي. فكلما قدّم المنتخب أداء جيدا، ارتفعت منسوب الوطنية و”تمغربيت”، وتعاظمت مشاعر الانتماء والتضامن. وبمجرد ما يتراجع الأداء أو تحل الهزيمة، يكفر الناس بالوطن، ويخوضون في السياسة وغلاء المعيشة وتوزيع الثروات، بل ويتم استحضار الكوارث الطبيعية والمآسي الاجتماعية. وفي هذا السياق، تحضرني مقولة نعوم تشومسكي حين تحدث عن الرياضة والترفيه بوصفهما آليات قد تُستعمل لتخدير الجماهير والتحكم فيها، تماما كما يُراد توجيه “القطيع” حسب مصالح السادة.
ليس هدفي من تدوين هذه الخواطر الخوض في التحليل الرياضي، فلست مختصا في الشأن الكروي، وإن كنت أمارس التحليل الفكري والأدبي والأكاديمي. والبون شاسع بين المجالين، إذ لكل حقل أدواته ومنهجيته ومعاييره. ثم إن كرة القدم لم تعد اليوم مجرد لعبة أو فن، بل تحولت إلى ما يشبه علما قائما بذاته، يُنظَّر له ويُدرّس في المعاهد، ويُمارس وفق مقاربات تقنية ونفسية وبدنية معقدة. والحديث فيها يقتضي، على الأقل، الإلمام بأساسيات هذا المجال الذي يشهد تحولات متسارعة في القوانين والأخلاقيات والوسائل، ناهيك عن الاستثمارات الضخمة التي أصبحت تفوق ما يُضخ في البحث العلمي والتأهيل الأكاديمي.
عفوا، قد أخذني الكلام إلى أفكار لم أكن أنوي الخوض فيها، لكنها أفكار تستحق أن تُثار وتناقش.
تابعت بقية المباراة في المنزل، وكنت، مثل سائر المغاربة، محظوظا بالتحول الجذري في أداء المنتخب خلال الشوط الثاني. هدفان جميلان أعادا الدفء إلى القلوب، ورفعا منسوب الوطنية، وأنسونا، ولو مؤقتا، الكوارث الطبيعية التي ألمّت بإخواننا في آسفي والحوز، وأبعدتنا عن التفكير في السياسة وتوزيع الثروات. وعلى ذكر السياسة، تحضرني مقولة للكاتب المغربي الراحل محمد شكري، وردت في حوار أجرته معه مجلة الوطن العربي في تسعينات القرن الماضي. سُئل يومها عن السياسة فقال إنها “لعبة قذرة” لا يرغب في التلوث بها. وسُئل أيضا: ماذا كنت ستصبح لو لم تكن كاتبا؟ فأجاب ببديهة سريعة: “كنت سأكون مهربا كبيرا”. كلمات مثيرة، لكنها عميقة في دلالتها.
بعيدا عن السياسة، أتابع التظاهرات الرياضية والدينية والأدبية والإعلامية والأكاديمية المرتبطة بوطني، وأفرح بكل نجاح يحققه أي مغربي في أي مجال. وأحاول، قدر الإمكان، الفصل بين القضايا والسياقات؛ فلكل مقام مقال، ولكل حدث حديث. لذلك لا أرى وجاهة في الخلط بين ما يحدث في غزة الجريحة وبين تظاهرة كروية تُنظم في المغرب. فنحن المغاربة من أكثر الشعوب دعما لغزة، موقفا ومالا، وندرك أن ذلك واجب أخلاقي وإنساني. كما لا ينبغي استحضار الكوارث الطبيعية كلما لعب المنتخب مباراة، ونحن نعلم أن هناك مؤسسات معنية، وأن التضامن الشعبي حاضر، وأن كافة المغاربة يتكافلون مع إخوانهم كلما حل بهم مكروه، داخل الوطن وخارجه، تماما كما في الحديث النبوي الصحيح: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”.
فلنبتعد عن التفكير السلبي المزاجي، ولا نجعل عقارب الزمن تتوقف، ولا ننسحب من مسرح الحياة، ولا نغتال ذواتنا بالعزلة. لنكن وطنيين في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، وفي كل زمان ومكان. ولنشتغل كلٌّ من موقعه، دون خلط بين الأوراق، أو إسقاط غير منصف للوقائع. وكما يقول المثل المغربي: “لا نخلط بين شعبان ورمضان”.
ختاما، ليس عيبا أن نتفوق في الرياضة وكرة القدم، لكن العيب أن نغفل بقية ميادين الحياة. ولحسن الحظ، فإن الدينامية التي يشهدها المغرب اليوم شاملة ومتعددة الأبعاد؛ إذ تتفتق المواهب المغربية في مجالات شتى: في القرآن الكريم، والرياضيات، والابتكار، والصناعة، والفلاحة، والمنتوج التقليدي، وغيرها. ونأمل أن تمتد هذه التنمية إلى المغرب العميق، وإلى الفئات الهشة، وإلى قطاعي الصحة والتعليم. وهناك مؤشرات إيجابية توحي بأن المغرب يتجه نحو المستقبل برؤية استراتيجية. غير أن نجاح هذا المسار يظل مرهونا بمدى اقتراب السياسات العمومية من حاجيات الشعب وتطلعاته، فبمستوى الشعوب واستجابتها تُبنى الأمم وترتقي.





