‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د عبد الجليل هنوش: العربية، آية اللغات ومختار البيان الإلهي

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

كلمة السنة باسم الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية لسنة 2025

   إن العربية قد حازت الفضل من كل وجه، واجتمع لها ما لم يجتمع لغيرها من اللغات من المزايا والمكارم. فهي من أقدم اللغات من غير شك، وقدمها مبسوط في آماد سحيقة من التاريخ عند أقوام من العرب كانوا ثم بادوا، وعند أقوام آخرين بقيت أخبارهم واندثرت آثارهم. وقد أكرم الله هذه اللغة فكتب لها بعثه قويه في عهد سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وذلك من خلال نفحة نبوية نقلت العربية من اللغة المستعملة في أغراض التخاطب الى (العربية المبينة) كما وصفها الحديث الشريف. ولعل تلك “البيانية” التي يلمح إليها الحديث تشير الى ما صاغه سيدنا اسماعيل النبي الرسول من أذكار وخطب ومواعظ وحيا كانت أو إلهاما أو إنشاء. وقد كانت هذه النفحة النبوية بداية مسار طويل استمر قرونا عديده تقلبت فيها اللغة العربية في أطوار من التهذيب البياني طورا إثر طور حتى بلغت حالا شبيها بالاكتمال قرنا واحد قبل بعثه النبي الخاتم، وهو اكتمال ظهر في روائع الشعر وبدائع القول ونفائس الامثال عند عرب الجاهلية.

   ثم جاء القرآن الكريم ليختم على هذه اللغة بخاتم إلهي فيكسبها شرفا لم تبلغه لغة من لغات الأرض فجعلها آية الألسنة بل آية آياتها جميعا. فقد وسعت معانيه الروحانية ولانت لكلمه الإلهية، كما شرفها النبي الكريم بنفحة نبوية تُكمل نفحة جده إسماعيل الأولى، فهيأ هذه اللغة للخلود حين لانت لجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.

   وإن لغة تفتتح مسارها البياني بنفحة نبوية إسماعيليه وتختتمه بنفحة نبوية محمدية لحقيقة أن تكون آية اللغات وسيدَتها على الدوام.

   وقد حقق نزول الوحي بهذه اللغة الشريفة لهذه اللغة ميزتين لم تعرفهما أي لغة من لغات البشر:

 الميزة الأولى: أن اختيار العربية لغة للكتاب الخالد هو أعظم تتويج للبيان الإنساني، ذلك البيان الذي بدأ منذ خلق الله الإنسان وعلّمه البيان، ومنذ أن خص الله عبده آدم بمعرفة الأسماء التي لم تكن الملائكة تعرفها، وذلك لأنها خصوصية إنسانيه ترتبط بالنفس البشرية، ولا نفس للملائكة، فلغتهم على الدوام روحيه غير مرتبطة بأهواء النفوس. ولم تكن تلك الاسماء هي أشياء العالم الخارجي كما توهم ذلك كثير من المفسرين. أقول: إن جعل لغة بشريه مشبعة بالمعاني النفسية، وهي الصفة المعبرة عن عجز البشر، قادره على حمل المعاني الروحية الثقيلة لكلمات الله، ما كان ليكون إلا بعد ذلك المسار الطويل من التصفية والضبط والتشقيق والتفريع والبناء والتأثيل، ومن التهذيب البياني حتى وصلت اللغة العربية الى كمال نضجها وتمام قوتها وجمال حسنها قبيل ظهور الاسلام بقليل، وكأنها كانت تتهذب وتتصفى وتكبر وتحسن تحت عين الله ورعايته استعدادا لليوم الموعود الذي تكون فيه مؤهله لحمل القول الثقيل من كلام رب العالمين.

 والميزة الثانية: أن هذه اللغة العربية الشريفة قد اختصت بارتباطها بكلام الله في القرآن، وهو ما لم يتم لأي لغة من لغات البشر، فلا أحد يعرف بأي لغة نزلت التوراة مثلا، وهي لم تنزل بالعبرانية بكل تأكيد، فلم تبق اللغة الأصلية بل بادت، ولم تبق لغة الزبور ولا لغة الإنجيل، وإن كان الإنجيل قد بلغ الغاية- في أصله- في نقل المعاني الروحية، فقد كان سيدنا عيسى نفسه روح الله وكلمته. وهكذا لم يبق من لغات الكتب المنزلة غير العربية. وقد كان نزول القرآن بها تثبيتا لبيانها عند حدّ لا يمكنها النزول عنه، وترسيخا لمكانتها العالية واعترافا بعالميتها لأنها لغة الكتاب المنزل للعالمين إلى قيام الساعة. وبهذا المعنى يكون القران الكريم نبيّ العربية كما قال شيخنا الرافعي بحق.

   وإن لغة وسعت معاني كلمات الله واقتدرت على أدائها لقادره على أن تسع كل ما دون ذلك من المعاني النفسية والعقلية والمادية. وبذلك تكون العربية قد اكتسبت قدره بيانيه خاصه استمدتها من النفحة النبوية ومن الختم الإلهي، وذلك ما يظهر في صيغ ألفاظها وتنوع أبنيتها وفي أنماط تراكيبها وصور أساليبها واتساع معانيها، مما جعلها أوسع اللغات وأبلغها وأكثرها عطاء وأقواها مرونة وقدرة على التكيّف مع الأحوال والأزمان وتقلباتهما.

 ولذلك فإن هذه اللغة خالده يبعث الله لها كل حين من ينافح عنها، ويجدّد علومها، ويرفع ، وينفض الغبار عن بيانها، ويكشف ما انطمس من أسرارها. ولذلك فإن ضعف أهلها في بعض أزمناهم لا يؤثر عليها إلا تأثيرا طفيفا، كما أن شراسة أعدائها في حربها لا تزيدها إلا توهجا وإصرارا على البقاء؛ كما أن غفلة بعض أهلها، وتقصيرهم في نُصرتها، وفي توسيع آفاقها، وفي تثبيت دعائمها، وانصراف بعضهم إلى التودد لأعدائها وتفضيل لغاتهم عليها، بل كفرهم احيانا بآياتها، واجتهادهم في محاربتها، والحط من قدرها لم يفتّ يوما في عضدها ولا مسّ عزيمة المخلصين من أبنائها. ومهما حاربوها فإن ذلك لم يضرها قديما، ولن يضيرها حالا واستقبالا، فهي محفوظه بقدر الله وقدر الله لا يغالب، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته

السبت 20 دجنبر 2025

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button