من لم يعلم، لا يستطيعُ أن يجيبَ عن مَسْأَلةٍ من المسائل أيًّا كان قدرها، والمسائل بشكلٍ عام تتفاوتُ تِبْعًا للمصلحةِ والهدفِ والغرض من طرحها على العارفِ أو العالمِ أو الفقيهِ أو المُفْتي الذي يُبينُ المُشْكِلَ من الأحكام. ومن لا يعرفُ، لا ينبغي لَهُ أن يُفْتىِ في أَمْرٍ مهما صَغُرُ شَأْنُهُ (الشُّؤونُ الصَّغيرةُ أراها دومًا كبيرةً).
لكنْ في مصر، ومع تعدُّد جماعات الإسلام السياسي، واختلاف رؤاها، وتباين مفاهيمها واختلاطها، وانتشار أنصاف الفقهاء، جعل الفَتَاوى أمرًا يسيرًا، بحيث ازدحمت السَّاحةُ بها، وَكُلُّها تُحرِّم، وَتُجرِّم، وَتُكَفِّر الكُفْرَ الصَّريحَ، مُسْتَنِدَةً إلى الخلافِ في التوجُّه أو الرأي، فما دام المرءُ لا يتفق معهم في فهمهم للدين، فمن الواجب تكفيره، والتشهيرِ بِهِ، وتشويه سيرته، و”المفتي” منهم قَادِرٌ على أن يستندَ في دقائقَ معدوداتٍ إلى عشرات من النصوصِ التي يستخرجها من بطون كتب السلف الصالح والتي يستطيع أيضًا مُفْتٍ آخر أن يفنِّدَها في دقائقَ معدوداتٍ، مستندًا إلى نصوصٍ أخرى مناهضة أو معارضة أو نافية أو مضادة للنصوص التي رجع إليها “المُفْتِي” الأول.
وهؤلاء “المفتيون” يُفْتون عادةً لصالح الجماعة، أو المرشد، أو السلطان، أو الملك، أو الرئيس، أو لأيِّ وليٍّ للأمرٍ، في أيَّ عًصْرٍ، وفي أيِّ مَكَانٍ. فالفتوى – في السياق الذي أتحَدث فيهِ – دومًا تَتَأرجحُ بين: الخروج من الإسلام، وإباحة الدم، والكُفر الصَّريح،….
والفتوى مُلْزِمةٌ عندهم، وينبغي البحث عمن يُنَفِّذها [اغتيال فرج فودة (1945 – 1992م)، محاولة اغتيال نجيب محفوظ (1911- 2006م)، وتكفير الكثيرين من الشعراء والكُتَّاب والمفكرين الذين ربَّما ينتظرون الاغتيال]، و”المفتي” يوقِّعها نائبًا عن الله سبحانه وتعالى، وهي حكم شرعيٌّ صادر من “مُفْتِي” الجماعة أو التنظيم، أو أي مُسَمَّى آخر، وللأسف لا أحدَ من هؤلاء الذين يروْنَ أنفسهم رأسَ الإسلام يعرفُ أنَّ الفتوى أَمْرٌ جليلٌ وخطيرٌ ولها منزلةٌ عظيمةٌ في الدين، ولا ينبغي للمرء أن يتلاعبَ بها، وفقًا لمعتقداتِهِ، وأفكاره، وآرائِهِ الأيديولوجية، ولا يعرفون – أيضًا- أنَّ النبيَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يتولَّى – من مُقْتَضَى رسالته- أَمْرَ الفُتيا بنفسه منذ أَنْ نَزَلَ الوحيُّ.
ولذا رأينا زَلَلاً واعوجاجًا وانحرافًا عن الطَّريق القويم في السَّنوات الأخيرةِ، فلا “مُفْتي” العصر له مَوْقعٌ بين الله وبين خَلْقِهِ، لينظرَ كيف يدخلُ بينهم، لأنَّه – ببساطةٍ – لم يُؤْت العلم الكافي للفصل في المسائل، كما أَنَّهُ يُصدر فتاواه، من موقع المختلفِ والمناهضِ للآخر في المجتمع الذي لا يتوافقُ مَعَهُ، وليس من زاويةِ نظرٍ مستقلةٍ لوجه الله. فهو غير قادر على الترجيح، ومن ثم فعمله مُحَرَّمٌ، بل هو آثمٌ، لأنَّ ثمةَ شُبهةً وَغَرَضًا من وراء فتواه، ضد شخصٍ بعينِهِ، أو فريقٍ، أو تيارٍ، أو اتجاهٍ، أو مَذْهَبٍ، أو مُعْتَقَدٍ. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول “من أَفْتَى بِغَيْرِ علمٍ، كان إثمُهُ على من أَفْتَاه” رواه أبو داود. لأنَّ المفتي – من المفترض- أن يُفْتِيَ بكلام الله أولاً، وَسُنَّة رسوله ثانيًا، أو يقيسَ عليهما، أو يستنبطَ منهما. وألا يُرْضِي شيخًا أَعلى، أو مرجعًا دينيًّا، أو سلطانًا،…. بأن يَعُودَ إلى هواه، وهوى تنظيمه أو مصلحة جَمَاعتِهِ، ولا يتبع الشهوات والهوى في الاختيار، ولأنَّ أغلبَ هؤلاء ليسوا من أهل الذِّكرِ، فهم – حقًّا وصدقًا- لا يعلمون.
وهناك فتاوى صَدَرَتْ، ورجع عنها من أصدروها، لأنَّهم كانوا يعلمون سَلَفًا أنَّ الأمرَ في الباطن بخلافِ ما أفتوا به، ولذا عادوا وتابوا (فتاوى الجماعات الإسلامية في مصر مثالاً).
فلا محاباةَ في الفتوى، أو انحياز، أو مراضاة، لأنَّ الأصلَ في الفتوى هو الفصلُ والإبانةُ والتوضيحُ، وليس التصيُّدُ، والتكفيرُ، والنَّيلُ من المسلم (المختلف). لأنَّ الفُتْيَا تعتمد الأّدِلَّةَ، ولا أرى مثالاً في التاريخ أنصع من الحكم على الحلاَّج والسُّهروردي – كأبرز اسمين في تاريخ التصوف الإسلامي- بقتلهما، رغم أنَّهما معتقدان بالإسلام، ومذهبهما هو السنَّة، ولكن كان للفقهاء رأيٌّ آخر فقد أفتى علماء عصر الحُسَيْن بن منصور الحلاَّج (858 – 922م- 244- 309هـ) بإباحة دمه، فقال لهم الحلاَّج – ولم يُنْصِتُوا، أو يستمعوا إليه، لأنَّهم كانوا يكيدون له، ويفتون لصالح الخليفة المقتدر في بغداد وقتذاك: (… دمي حَرَامٌ ، وما يحلُّ لكم أن تَتَقولُوا عليَّ.. وأنا اعتقادي الإسلام، ومذهبي السُّنَّة وتفضيل الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين وَبقية العشرة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولي كُتبٌ في السُّنَّة، فالله الله في دمي”، ورغم ما قاله سُجِنَ، وُضُرِبَ بالسَّوطِ أَلْفًا، وَحُزَّت رقبتُهُ وقُطِّعتْ يداه ورجلاه، وأُحْرقت جثتُهُ.
كما أن السُّهروردي (549 – 587 هـ – 1154- 1191م) أفتى فقهاء صلاح الدين الأيوبي بقتلِهِ، وظل مقتله نُقْطةً سوداء في تاريخ صلاح الدين الأيوبي (532- 589 هـ – 1138 – 1193م)، لن تُمْحَى من التاريخ.
إنَّهم فقهاء كُلِّ عصرٍ يُفتون لغرضٍ دنيويٍّ بعيدٍ عن الدين تمامًا. مثلما هم بعيدونَ عن أمور الإفتاء، وهؤلاء لم يُؤتمنوا على شرع الله ودينه، ولم يصدقوا في التبليغ، ولم يحفظوا الأمانةَ، ولم يصلوا إلى أن يكونوا ورثةَ الأنبياء والمرسلين، لأنَّهم كانوا بئس الواسطة بَيْنَ اللهِ وَخَلْقِهِ. وَلاَ أَظُنُّ أنهم قرأوا ما قاله الإمام النووي (631- 676هـ – 1255- 1300م) الذي يتشدَّقون باسمِهِ ليلَ نهار: “اعلمْ أن الإِفْتَاء عظيمُ الخَطَر، كبيرُ الموقع، كثيرُ الفَضْل، لأنَّ المُفْتِي وارثُ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائمٌ بفرض الكفايةِ، لكنَّه مُعرَّضٌ للخطأ، ولهذا قالوا: المُفْتِي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى.