كتب: د محمد فخرالدين
التعليق الرياضي جنس إبداعي بامتياز، إنه مجال لممارسة الكلام المقترن بالحركة والفعل، حيث تصير اللغة حركية تخلق الفرجة بنفسها بشكل منفصل في بعض الأحيان عن المباراة ..
قد يستقل الوصف عن الموصوف للمزيد من إضفاء المعنى على اللعب و اللاعبين من خلال الأسلوب المستعمل ، وإعطاء قيمة خاصة للمباراة كحدث تاريخي بل حتى أسطوري في بعض الأحيان لأنه يتخذ مظهر مغير للتاريخ ، مما يجعل للتعليق جمالية خاصة.
وهنا يتميز بعض المعلقين بقدرات ومواهب وملكات متميزة، يستندون فيها إلى كل أساليب التأثير والإقناع التي تمنحها اللغة والثقافة، ويصير لكل معلق أسلوبه الخاص المميز في التعليق وهو ما لحظته في التعليق على مباراة المغرب وكرواتيا حيث أبلى المعلق بلاء حسنا في تأمين التفاعل الجميل بين الجمهور و المباراة ..
إن كل شيئ قابل للتوظيف في الخطاب الرياضي مادام هناك جمهور متعطش للانتصار ، وتغيير الرتابة، من الإشباع الصوتي الذي يميز الإلقاء المتنوع حيث يقوم المعلق بمد الحروف إلى ما لا نهاية ..أووووه .. سدداااا . ..
والرفع من مستويات الصوت و من نبرته حسب أداء اللاعبين و التمييز بين متابعة إنجاز الفريق المتعاطف معه وإنجاز الفريق الخصم ..
وفي الغالب لا يكون التعليق موضوعيا لانه ممتلئ بشحنة عاطفية مشفوعة بالانتماء إلى الفريق الوطني ..
وعلى مستوى الشكل يتم في التعليق التنويع في الأساليب المستعملة من تسجيل مباشر، وسرد تذكيري وسيري ومونولوغ و وصف، مما يضفي على التعليق جمالية خاصة، حيت نلاحظ الرجوع إلى الذاكرة واستعمال أوصاف خاصة : صعبة ـ خطيرة .. والجمع بين هذه الأوصاف وبين أساليب أخرى كالسؤال والتمني والأمر ، وسيولة الربط بين الحاضر والماضي ..
وقد يلجأ التعليق إلى تكرار التعابير لتثبيت المعنى المقصود وإقناع المتلقي بالفكرة وترسيخها في ذهنه : من حقنا أن نحلم من حقنا أن نطمح، كما يلجأ إلى الحذف والاقتصاد اللغوى عند تسارع إيقاع المباراة: خطيرة المرابط ..
وحتى استعمال أشكال من الثقافة الشعبية كالأمثال الشعبية المغربية ، والإحالة بشكل واع أولا واع على أغنية تشكل جزء من الذاكرة ، أغنية عبد الحليم حافظ في قارئة الفنجان ..
طريقك مغلوق يا ولدي .. طريقك مسدود ياولدي
مما يفتح خطاب التعليق الرياضي على الثقافة الخاصة للمعلق والتي كلما كانت ثرية كلما زادت جمالية هذا التعليق بشرط أن لا تطغى على البعد التسجيلي لفعل التعليق باعتباره أساسا رصد دقيق لأحداث المباراة ..
كما يلجأ المعلق إلى استعمال لغات متعددة في نوع من الإبداع اللغوي التجميعي الذي يفتح الفصحى على اللغة اليومية في الشكل أو المضمون : كم هي صعبة ، التي تعود بنا إلى التعبير اللهجي : شحال صعيبة ..
ونلاحظ جمالية خاصة في التعليق من خلال تعدد اللهجات، من استعمل الفصحى إلى لغة وسيطة ، إلى استعمال العامية بوحدو ، إلى اللهجة المصرية ، مرت سلامات ، سلامات سلامات إلى اللهجة الخليجية ، إلى الأجنبية : كونترول..
وهذا التنوع يغني لغة التعليق ، ويغني الجمهور بعدد جديد المتلقين ، ويدفع إلى تلاقح المعاني والثقافات المحلية..
إن التعليق ليس أمر سهلا فهو لا يقبل من المتعلق أي هفوة و أي خطا .. فالجمهور يتابع المباراة من خلال التعليق أكثر من اتباعها عن طريق المشاهدة وحدها ومن تم يمكن اعتبارها فعلا موجها لمشاهدة الجمهور ، الذي يقارن و يركب بين ما يشاهد وما يسمعه وقد يلجأ استنكار أي مفارقة بين التعليق و المباراة ، سواء في حالة الإيجاز الشديد أو الإطناب المبالغ فيه..
وتزيد صعوبة التعليق ومسؤولية المعلق عندما تهمد حركة المباراة أو يسود الفتور وتقل الهجمات وتسجيل الأهداف. وهنا تظهر براعة المعلق في إعادة الحياة إلى المباراة و إعادة الحماس إلى الجمهور المستعجل للنتيجة ..
نلاحظ استعمال المعلق لعدد من فنون القول مما زاد في جمالية التعليق بحيث استخدم السرد والشعر ، وعددا من الأساليب الأخرى لتأمين كل سبل التفاعل مع أجواء المباراة كاستعمال أسلوب نداء اللاعبين وكأنه يؤثر في حركتهم الحقيقية في الميدان، ومختلف أشكال الاستفهام التي تستشرف الفعل ونتيجة المباراة، كما استعمل الوصف التفضيلي أحلى كونترول، والتمني: لو فعلتها، والأسلوب الشعري المجازي : الشباك تناديك …
واستعمال الأمر والتحريض : حاصروه ـ طوقوه ، والمبالغة في الوصف من خلال وصف لاعب باعتباره الرئة التي يتنفس بها المنتخب الكرواتي ..
كما تم في التعليق الرجوع الى الذاكرة والتعريف باللاعبين من خلال وقوف عند سيرة بعضهم ومشاركتهم في مباريات مهمة سابقة ، أو سيرة المدرب وكونه ـ حافظ الدرس جيدا ..
كما يعمد التعليق على استعمال الوصف التفضيلي : أحلى ، كما يستعمل أسلوب الرمز والتعبير الغير المباشر : أمام الجدار المغربي ، الأسود .. ويستعمل أسلوب التحليل والتفصيل في بعض القضايا المتعلقة بالفريقين المتواجهين : لكن على مستوى الدعم…
واستعمال أسلوب المقارنة بين الفريقين ، في نوع من الدفاع الذاتي والفخر بالمقدرات، واستعمال المقابلة بين الآنا، النحن و الآخر : إذا كان عندهم ..فعندنا ..عندنا رجال.. عندنا أسود .. وينتقل من الجماعي إلى الفردي عندنا رسام … عندنا فنان ..
كما نجد اللجوء إلى الحكمة في لحظات هجوم الخصم أو هيمنته على المباراة أو ارتكاب بعض الأخطاء من طرف بعض اللاعبين في صد الهجوم فالمباراة مد و جزر : هذه دروس نتعلم منها ..
إن التعليق يتابع مختلف أطوار المباراة و يوظف التعابير المناسبة لمخالف مراحلها ، إنه خطاب متغير تصاعدي وتنازلي حسب الوضع الخاص للفريق ، ولحظات الهجوم و الدفاع و الفتور، حيث يملأ التعليق الفراغات طيلة مدة المباراة حتى لا يكون هناك صمت، لأن الصمت هو العدو الأول للتعليق .
ويحاول التعليق التدخل في خط المباراة من خلال توجيه الكلام المباشر لللاعبين وكأنه مشارك فعلى يمكن أن يؤثر على المباراة من خلال الكلام الفاعل، كما يفعل بعض جمهور الشاشات من فرط الحماس : امش يا حكيم ، ويبدو كلام المعلق وكأنه يعرف النتيجة بشكل مسبق ويتنبأ بها : أما قلت لكم ..
يملأ المعلق صمت الحدث في المباراة ، حيث يلتقط كل الحركات ، يصف يعلق ويحلل ويناقش، ويعود إلى الماضي ، وينسج الخطاب نسجا بمختلف الخيوط و الألوان و الأشكال ..
وخلاصة القول إن التعليق الرياضي هو جنس منفتح على مختلف الأجناس وعلى الإبداع الشعبي بمختلف أشكاله الماضية و الحاضرة ..
إنه نوع شفوي ـ ينتمي في عمقه إلى الثقافة الشعبية ـ ولا يكف عن الاقتباس منها على مستوى الشكل والمضمون ، جنس مجمع يغترف من مخزون الخطابات والذاكرة الجمعية و الثقافية ومن فكر الحياة اليومية..
يبدع المعلق اليوم في تعليقه الخاص،و يزيد التعليق من حالة الفرجة الشعبية، فالخطاب موجه إلى متلق متعدد ومتحمس ، تجمع بينه الرغبة في الفرج والشعور بالانتماء و التطلع للفرح ، لذلك لابد أن يستجيب التعليق لهذه الشروط، لكن دون مغالاة حتى لا يفسد روح الفرجة الرياضية، رغم أن هذا الخطاب ليس محايدا، فغالبا ما ينتصر لفريق دون آخر ..
ويستدمج التعليق في خلفيته صرخات الجمهور أو صفيره ، ويندمج فيه الكلام بالفعل في وحدة عجيبة قد لا ينتبه لها حتى المعلق نفسه، ويظل المتلقي محتفظا في ذهنه بجماليته في اكتمال الفرجة والبهجة والنتيجة ..
ليأتي في النهاية تقييم المباراة من طرف المعلق ـ المعبر في الغالب عن رأي الجمهور في انسجام تام ـ كخلاصة عامة منفتحة على المستقبل تحاول أن تشد الحلقات ببعضها : المباراة كانت صعبة، إنه تعادل ثمين…. تعادل ثمين أمام منتخب يصنف من الأوائل ..