‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د/بنسالم حميش: الأمازيغية في مرآة اللغويات المقارنة

“الأمازيغية” قد دُسترت إذن إلى جانب اللغة العربية “التي تظل لغة المغرب الرسمية” حسب تعبير دستور 2011؛ غير أن تنزيل الأمازيغية موحدة وبحرف تيفناغ ما انفك يصطدم بصعوبات جمة ميدانيا وعمليا وتعليميا. ولقد أخطأ وضل وأضل من برّر مشروعية تلكم الدسترة بأنموذجي سويسرا وبلجيكا. والظاهر أن من يقول بذلك إما أن معلوماته التاريخية ناقصةٌ عائبة، وإما أن وعيه التاريخي يشكو من شحوب أو عوز مّا. فبلجيكا، منذ القرن الثالث عشر، كانت لغتاها الرسميتان هما الفرنسية في منطقتها الجنوبية (الوالوني) والفلامان (المشتق من الهولندية) في منطقتها الشمالية، وزاد في تكريس هذا الانشطار اللغوي وتصليبه تضعضع الإمبراطورية النابوليونية جراء هزيمة واترلو في 1815، بحيث تمَّ في مؤتمر ڤيينا للسنة نفسها انتزاع ولايات بلجيكية من فرنسا وإلحاقها بهولاندا. وظل الوضع على هذا النحو إلى أن أُنشئت مملكة بلجيكا في 1830، فعاد الوضع اللغوي كما كان عليه قبل ذلك المؤتمر، وتبنت بروكسيل الازدواجية اللغوية، كما اعتمدت من بعدُ لغة رسمية أخرى هي الألمانية… أما سويسرا المتأثرة أصلا بالإصلاحية البروتستانتية، فإنها لم تحقق وحدتها الترابية والإدارية إلاّ في 1815 مع مؤتمر ڤيينا المذكور، حيث خرجت مكوَّنَة من اثني عشر كانتونا (أُضيف إليها بالاستفتاء كانتون جورا في 1974). وداخل هذه الكونفدرالية من الكانتونات تقوم الفرنسية كلغة رسمية تكميلية إلى جانب لغات أوروبية رسمية أخرى، هي الألمانية والإيطالية والرومانش.

إن حالتي ذينك البلدين الخصوصيتين، علاوة على حالات أخرى محدودة، لا يحسن الاقتداء بهما لأنهما من جهة صنيعتا الحروب وصراعات جيو – سياسية واقتصادية بين بلدان أوروبية قوية متجاورة، ولأنهما، من جهة ثانية، شواذ، والشاذ في المنطق كما في الفقه لا حكم له ولا قياس عليه.

أما القاعدة الجاري بها العمل عالميا في البلدان المتقدمة كما في البلدان النامية فإنها قاعدة التجانس اللساني والثقافي. فدستوريا، لا يمكن لأي وطن أن يتبنى لغتين رسميتين أو أكثر من دون أن يخاطر بالظهور برأسين أو أكثر tricéphale، مع ما قد يستتبع هذا في الحال والمآل من تصدعات وانفصامات في الشخصية الجماعية وفي أوعيتها السوسيو – ثقافية وقنواتها التواصلية. وفي واقع بلدان المغرب، يبدو الإقدام على مثل ذلك الأمر بمثابة فصل جسم عن جهازه العصبي أو أعضاء حيوية عن شرايينها وأشغفتها. والسبب لا يكمن في تاريخ علاقات الدم والقرابة والثقافة المشتركة فحسب، أي تاريخ المصاهرات والانصهارات المطردِ الكثيفِ المديد، وإنما أيضا في التقلبات الجينيالوجية واللغوية التي مست مناطق ومجموعات بشرية كاملة؛ فها هو خبير سوس وما جاورها، محمد المختار السوسي، يسجل: «وفي صحراء سوس تتماوج القبائل العربية من بني هلال وغيرهم، لا يزالون يحافظون على أنسابهم وعلى لغتهم إلى الآن، وأما في بحبوحة سوس فلا يُتكلم فيها بالعربية إلاّ في أولاد جرار بضواحي تيزنيت وإلاّ في قبائل تحيط بتارودنت، وأما غالب هذه الأسر العربية الأصل فإنها تشلّحت حتى نسيت لغتها وإن لم تنسَ غيرتها العربية الدينية» (إيليغ قديما وحديثا، ص 10). ومن تلك الأسر العربية المتشلحة مثلا قبيلة شتوكة العربية الأصل؛ وفي المقابل ها هي تامسنا منطقة قبيلة البرغواطيين البربرية قد استعربت كلية منذ عهد عهيد، إلخ.

وإذن، ونحن أمام أطلس لساني ولهجي متماوج ومتمازج، كالذي وضعه وحلّله البحاثة أندري باسي، (انظر أطلس لساني للهجات البربرية، الجزائر، 1936–1939). وبالتالي كيف لنا أن نحصي الناس ونصنفهم على أساس انتماء عرقي صافيِّ الدم، خالِص الأصل والأرومة؟ إنه ضرب من المحال، يتكشف وهمه مغاربيا وفي أغلب المعمور المتمدن أو السائر في طريق التحضر. وذلك ما اضطر إلى الاعتراف به وإقراره المؤرخ الموسوعي أرنست رينان، بالرغم من أنه كان يتعصب للجنس الآري ويقول بفذوذيته وتفوّقه (ولهذا السبب نستشهد به)، فيكتب: «ليس هناك في فرنسا عشر أسر تستطيع أن تعطي الدليل على أصل فرنكي، وحتى هذا الدليل يبقى مختلا، بفعل ألف مصاهرات مجهولة بمقدورها أن تزحزح كل أنسقة النسابين […] الحقيقة أنه ليس هناك عرق خالص، وأن إقامة السياسة على التحليل الإثنوغرافي هي بمثابة السعي إلى حملها على خرافة». ويضيف على سبيل المثال لا الحصر: «إن أنبل البلدان، إنكَلترا، فرنسا، إيطاليا، لهي بلدان يصل الدم فيها أعلى درجات الاختلاط. وألمانيا هل تشكل هنا استثناء؟ هل هي بلاد جرمانية خالصة؟ لا بل هذا مجرد وهم! كل جنوبها غالي، وشرقها كله انطلاقا من الايلب سلاڤي، والأجزاء التي يُزعم أنها صافية [عرقيا] ليست هي حقا كذلك» (Qu’est-ce qu’une nation ; p.15 et 21).

وحتى على صعيد المجالات اللغوية فإن لها تاريخا ضخما من التحولات والتبنيات، سواء في أوروبا والأمريكيتين، ناهيك عن الهند وبلدان إفريقيا السمراء، وغيرها. فمصر ذات الحضارة الفرعونية العظيمةِ العريقة (ولها صلة بموضوعنا) تبرر وقفة ولو عجلى، نظرا لاكتسابها طابع البراديغم الدال والدرس النافع اللذين لا محيد لنا ولا غنى عن تمثلهما وتأملهما). فمصر هذه اعتمدت منذ الفتح الإسلامي العربية لغة وثقافة، فلم يؤثر هذا على تنامي انصهارها فيها كون تاريخها الوسيط والحديث تعاقبت عليه دول ونخب سياسية وعسكرية قوية متنفذة، استعربت كلها ولو أنها كانت غير عربيةِ السلالة والعرق، ومنها على وجه التحديد الدولة الإخشيدية الفرغانية الأصل، والكتاميون والأتراك والصقليون دعامات الدولة الفاطمية، والأكراد مؤسسو الدولة الأيوبية، ودولتا المماليك البحرية والبرجية التركيتان، وخديوية مـحمد علي الألباني الأصل… أما أقلية الأقباط المسيحيين في مصر فهي معربة تماما، ومن يتكلمون إلى اليوم النوبية جنوب أسوان مصريون حتى النخاع، دينا ولغة عربية وانتماء. وقد ظهرت خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي دعوات “فرعونية” معزولة تطعن في عروبة مصر، وتقول بتغليب تاريخها الفرعوني القديم على أي مكون آخر، ولو من دون القول مطلقا بتبني الأبجدية الهيروغليفية التي فك العالم شوبليون رموزها ويسّر قراءتها للأخصائيين (عكس ما هو حال حرف تيفناغ الفينيقي الإشكالي المجادل فيه)؛ لكن تلك الدعوات سرعان ما تلاشت كزوبعة في فنجان لما أن تصدى لها مؤرخون خبراء، نذكر منهم على سبيل المثال فحسب حسين فوزي، صاحب سندباد مصري، الذي يجدر إيراد مقتطف من تحليلاته الدقيقة المفيدة، التي تؤكد على الأس العربي لمصر ومحوريته الدافعة اللاحمة، فيكتب: «أما اللغة العربية فهي دعامة صَرحنا الثقافي كله، وتعمقنا في دراستِها، نحوا وصرفا وأساليب، وكلّ هذا يزيد من اطمئناننا إلى صدق حياتنا، ورسوخ قواعدها. ولست ممن يطالبون بتدريس اللغة المصرية القديمة، ولا اللغة القبطية، إلاّ لمن يتخصصون في حقباتها التاريخية […] وعنايتنا القومية بالحضارة العربية لا تعفينا من أن نحيي في نفوسنا تاريخ حضارتنا السالفة، في قالب عربي بليغ، إذ يجب أن يتكوّن المصري عقلا وشعورا مما يوحي به تاريخه الحضاري كله، فيتمثل حضارته جميعها في إطار من لغته العربية» سندباد بحري، دار المعارف، 1961، ص 345.

انقضت إذن تلك الدعوات في مصر، ولحقت بها أخرى قال أصحابها – في الفترة نفسها أو بعدها بقليل – بوجوب تغريب مصر وتتبيعها إلى أوروبا، ومنهم أسماء وازنة كزكي نجيب محمود الذي دعا إلى النظر إلى الشرق من الغرب، وسلامة موسى الذي نادى باعتماد الأبجدية اللاتينية في كتابة العربية، وطه حسين الحاض على «جعل مصر قطعة من أوروبا لفظا ومعنى، وحقيقة وشكلا» (مستقبل الثقافة في مصر، القاهرة 1938، ص 26 و45)؛ وذلك قبل أن يؤوب إلى رشده التاريخي ومسؤوليته التعليمية والمعنوية كمفكر أصيل وعميد للأدب العربي، عزز بعطاءاته الغزيرة أرض الكنانة، الحافلة بالأعلام العظام في شتى الحقول الثقافية والفنية القائمة أعمالها وتجلياتها على اللغة العربية هوية فاعلة ونسيجا واصلا…

إن الاضطلاع بمنهج تاريخ اللغويات المقارن، المتروك أو سيّئ الاستعمال عند جمهرة المؤرخين الاستعماريين، لمن شأنه أن يجعلنا ندرك أن التعدد العِرقي واللغوي والثقافي لم يكن من نصيب بلدان الجنوب وحدها؛ بل إنه من ثوابت تكوُّن القوميات الوطنية في الغرب مع الميل القوي الدؤوب إلى تدبيره بما يخدم تجانسها الحيوي وتواصلها المنتج الضروري. فالولايات المتحدة، بلاد الليبرالية وتمثال الحرية، بالغة الحد الأقصى في الاختلاط العرقي والتنوع البشريmelting-pot) /patchwork )، فإن فيها حرصا شديدا على سيادة الإنكَليزية من (دون التنصيص على دسترتها) وكذلك مفردية تداولها الرسمي والعمومي، وإنْ في الولايات ذات المجموعة الإسبانيكية الكثيفة. وذلك الحرص هو ما يمنّع قوتها الثقافية الفخيمة (المعلوميات، الإعلام، هوليود…) إضافة إلى مقومات القوة الأخرى: “النيت”-تكنولوجيّا والسمارتفون والسيلكون ڤالي وعمالقة الويب والدولار والترسانة العسكرية الهائلة… وأما أمريكا اللاتينية (الوسطى والجنوبية) فقد فُرضت عليها بدءا من 1492 فقط اللغة الإيبيرية بالتمسيح وضراوة السلاح الهائل المدمر الإبادي؛ غير أن بلدان تلك القارة لما أن تحررت من الاستعمار الإيبيري منذ مطلع العقد الثالث للقرن التاسع عشر، حافظت على الحضارة الإسبانيكية لغة وقانونا وعقيدة كاثوليكية، فبيّأتها ونافست مَهْديها (إسبانيا والبرتغال) في تعميق عطاءاتها وتمنيع حضورها العالمي، فنكاد لا نجد اليوم أو حتى بالأمس القريب أيَّ تجمع سياسي أو مدني ذي شأن ولا أيَّ كاتب أو مفكر يدعون إلى تغيير اسم القارة اللاتينية (خلافا لما هو عليه حال دعاة استبدال اسم “المغرب العربي” بـ”المغرب الكبير). كما أننا لا نجد مطلقا من يدعو إلى تبني لغات المايا والأستيك والأنكا، بيد أن روح الحضارات ما قبل الكولومبية قد ترسبت بأشكال شتى في الآداب الشعبية، كما في حساسية ومخيال الكتّاب والمبدعين اللاتينو – أمريكيين. ولا يغير تداول الكيتشوا في البيرو والبراغواي تخصيصا من الوضع شيئا. هذا مع العلم أن الإسبانية قد أثرت أيما تأثير في لغاتٍ ولهجاتٍ وتأثرت بها، وهي، علاوة على الكيتشوا، والكَواريني وناهووات (الأَستيكية)، وضريع هذا “التوارد” هو الحاصل بين اللهجات البربرية والعامية المغربية (انظر مثلا مؤلف الأستاذ محـمد شفيق الدارجة المغربية، مجال توارد بين الأمازيغية والعربية).

وأما ألمانيا (أو بروسيا الإمارات) فقد كانت طوال عهود خلت تتكلم السلافية ثم اللاتينية، حتى إذا حلَّ منتصف القرن الثامن عشر تكونت لأول مرة لغة مشتركة واحدة، هي الألمانية، بعد أن مهدت لها أعمال الجامعات خلال النصف الثاني للقرن السابع عشر، وقَوّتها سياسيا واقتصاديا توجهات الريخ الثاني الوحدوية، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، مع الامبراطورين غيوم الأول وغيوم الثاني ومستشارهما البارز بسمارك (واضع العملة الوطنية الدوتشمارك). وهكذا فبفعل قوة ذلك النزوع الوحدوي المتنامي، فوق تعدد اللهجات الإقليمية، عرفت ألمانيا نهضتها وعهد أنوارها (Aufkärung) وفلسفاتها القوية المؤثرة وأدبها الرومانسي الراقي المتجلى مثلا في تيار “العاصفة والرغبة” (Sturn und Drang)، إلخ. وبناء على تلك الدعامات تيسر للألمانيتين الغربية والشرقية استعادة وحدتهما بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي وسقوط جدار برلين في 1989.

أما عن فرنسا، فنعلم تاريخيا أن بلاد الغال، منذ احتلالها من طرف “يوليوس قيصر” ودخولها جزءا في الإمبراطورية الرومانية (51 قبل الميلاد) حتى بداية القرن السادس عشر ميلادي لم تكن تستعمل إلا لغة الرومان، أي اللاتينية، وليس اللاتينية الكلاسيكية بل عاميتها. وفي عهد الملك “فرنسْوا الأول” فقط (1515-1547) تم تبني سياسة لسانية جديدة تسعى إلى تثبيت لغة فرنسية متميزة اسمها “فرانسيان” Francien، وهي مزيج من اللاتينية ولهجة من أهم لهجات “دُويلْ” d’oïl بشمال فرنسا (المختلفة عن لهجة “دوك” d’oc الجنوبية)، وكان ذلك بفعل مرسوم قانون Villers-Cotterêts لسنة 1539، سرى مفعوله حتى على لغات غير رومانية، كالباسكية والألزاسية والبروتونية والفلامانية، فتمكن ذلك الملك المشرِّعُ المؤسس من إنجاح سياسته تلك، إذ إنه أقدم على توحيد أجزاء المسدس الفرنسي سياسيا وخلَق داخلها شروط التمركز الإداري والقانوني والتعليمي والتواصلي. وهكذا، تلقت الفرنسية كلغة وطنية موحدة دفعة إلى الأمام في عهد “الأنوار” والثورة الفرنسية البرجوازية والأنظمة المنبثقة عنها، فمُثلت على أنها التعبير عن عبقرية البلاد الفرنسية وروحها، وصار الكلام بالفرنسية يبدو للجميع كصيغة أساسية لكيان الوطنية والهوية الانتمائية، حتى إن الساسة والأدباء وسواهم صاروا يتنافسون عبر العصور في تثبيت ذلك وترسيخه قولا وفعلا. وللمقالة بقية تنضاف إلى المقالات العشر التي نشرتها سلفا في بعض المواقع والمنابر، وهي في الموضوع ذاته مع ما احتوى عليه من تفريعات وتناسلات.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button