لحظة تفكير

د محمد فخر الدين: أنثربولوجيا الزجل المغربي

(امتداد جمالي من عبد الرحمن المجذوب إلى أحمد المسيح)

 تقديم :

عبر الزجل المغربي منذ بدايته عن ثقافة المجتمع ، وخلد بتعبيراته الكثير من القضايا والمشاعر والأحاسيس والآمال والأحلام والآلام، وجد فيه الغناء ضالته سواء كان غناء فرديا أو غناء مجموعات .. واجه النقد الرافض، ونبغ فيه الكثير من المبدعين والمبدعات الذين يعجز لساني عن ذكرهم ـ هن ـ جميعا ، لكن أحييهم كل واحد باسمه ومرتبة إبداعه بهذه المناسبة ..

 فالزجل مكون مهم من مكونات الثقافة الشعبية في الماضي والحاضر، فهو من أهم أشكال التعبير والإبداع الشعري فيها. وهو شكل تعبيري شعري، يتوسل بلغة اليومي مما يجعله أكثر قربا من ما يشغل المجتمع ، وهو ينقل هذه المشاغل المتعددة بصور جمالية و فنية و بلاغية متميزة ..

والقصيدة الزجلية أو الشعر بلغة اليومي في حاجة ماسة ودائمة إلى رفع النظرة الدونية التي تتهمه بكونه فاقد للبلاغة والجمال، كما هو بحاجة إلى  الاهتمام النقدي من المؤسسات الجامعية والثقافية  للغوص في خصائصه الفنية، والتعريف بخصائصه وشعريته …

 معنى لفظة زجل :

نجد من بين معاني مصطلح الزجل رفع الصوت المرنم، و الصوت العالي المنغم.

ونجد في لسان العرب الزجل هو الصوت ، والزجلة ( بفتح الزاي) هي صوت الناس ، Hما الزجلة ( بضم الزاي ) فتعني الجماعة من الناس، ويمكن الاستنتاج ان الزجل هوصوت الناس، وهو ذلك الشعر المرتبط بالناس و بالجماعة وهمومها التي تختلف عن هموم النخبة او الخاصة ..  

الزجل المغربي امتداد ثقافي و حضاري

نجد القصيدة الجزلية حافلة بالمعاني والصور بليغة في اختيار ألفاظها ومعانيها دقيقة في وصفها للواقع ، ابتداء من شعر عبد الرحمن المجذوب الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للزجل المغربي، والذي كان شعره مليئا بالمعاني العميقة المرتبطة بالحياة، والحكم المرتبطة بالمعيش والمطلعة على النفس البشرية ، المنفتحة على المعاناة التي تتخذ في بعض الأحيان بعدا فلسفيا تأمليا،  فنجده يدعو المجتمع إلى الاهتمام بجوهر الإنسان :  

شافوني اكحل مغلف يحسبوا مافي ذخيرة
وانا كالكتاب المؤلف فيه منافع كثيرة

إن الإبداع هو رفعة وفخر بالنسبة للمبدع ، وهو أيضا موهبة وهبة ليست في متناول كل إنسان :
كسبت في الدهر معزة وجبت كلام رباعي
ماذا من اعطاه ربي ويقول اعطاني ذراعي


إن هذه الحياة في ثقافة الشاعر نسبية وغير دائمة فلا داعي لإغراق النفس في الهموم والتفكير في مستقبل الأيام :

لاتخمم لا تدبر لاترفد الهم ديما

الفلك ماهو مسمر ولا الدنيا مقيمة

كما يدعو الى الصبر على كل ما يأتي به الزمان ، فربما يأتي بعد ذلك ما يسر به الإنسان ، فالأمل مرتبط بالصبر على الألم والمعاناة في نوع من الجدلية بين الألم و الأمل التي تعبر عن يوتوبيا اجتماعية نابعة من رحم المعاناة   :

ياصاحب كن صبار اصبر على ماجرى لك
ارقد على الشوك عريان حتى يطلع نهارك
الهم يستهل الغم والسترة ليه مليحة
رد الجلدة على الجرح تبرا وتولي صحيحة
لا تخمم في ضيق الحال

شف عند الله ما وسعها
الشدة تهزم الارذال

 أما الرجال لا تقطعها

كما يتحدث عن علاقة الصمت والكلام .. وفائدة الصمت المرتبط بالحكمة و التعقل ، مما يفهم منه طبيعة المجتمع الذي يسود فيه الخوف، وعدم قبول كلام الآخر ، وبالتالي يصير النص الزجلي عبارة عن وثيقة تاريخية تعبر بطريقة غير مباشرة ورمزية عن الواقع الاجتماعي  :

الصمت حكمة ومنه تتفرق الحكايم
لو ما نطق ولد اليمامة

مايجيه ولد الحنش هايم
الصمت الذهب المسجر

والكلام يفسد المسألة..
اذا شفت لاتخبر

 واذا سولو ك قل لا لا
 إنه من الفطنة فهم الواقع النفسي والاجتماعي وطبائع الناس، فالشاعر يعطي في ذلك دروسا انطلاقا من تجربته   في السلوك الاجتماعي باستعمال الرمز وتشبيه الأحوال ببعضها، فالذي يعول عليه الإنسان هو الذي يحصل له منه الضرر في أغلب الأحوال، ويشبه في ذلك الذي يحرث نبات الشيح ولن يكون نصيبه منه إلا المرارة :
نوصيك ياحارث الشيح

والشيح فيه المرورة
اللي تظن وتقطع عليه

 تاتيك منه الضرورة
نوصيك يا واكل الراس

في البير ارمي عظامه
اضحك ولعب مع الناس

فمك متن له لجامه

كما يوصي الشاعر بالقيام بأعمال الخير واجتاب عمل الشر، وينبه الى عاقبة ذلك :
يا زارع الخير حبة

 يا زارع الشر خاسر

كما يتحدث عن أخلاق الناس و طبائع البشر في نوع من التشاؤم :

في القلب مابقات رحمة

 شوف  حالي يا العالي

من يأمنك يا كحل الراس

ماشينك بطبيعة
السن يضحك للسن

 والقلب فيه الخديعة

ليتحدث عن فائدة السفر وقيمته في تحصيل المعرفة :
سافر تعرف الناس

و يدعو الشاعر إلى الثبات على المواقف الاحتراس من تقلبات الدهر وتغيرات الزمان التي تصيب الإنسان في هذه الحياة  :
انا اللي كنت ثقيل

 ورزين وخفيت بعد الرزانة
مشيت لرماد عامين

نستنى فيه السخانة

هذا تكون ثقافة القصيدة الزجلية عند عبد الرحمن المجذوب مزيجا من التفاؤل و التشاؤم ، و اكتشافا لسلوك الناس وطبائعهم و غوصا في طبيعة النفس البشرية ..

و يتابع الشاعر أحمد المسيح  نفس الاحتفال بالمعنى الشعري والجمالي الذي أسسه عبد الرحمن المجذوب ، في قصائده الزجلية بطريقته انطلاقا من تجربته المتميزة وثقافته الخاصة، حيث يقول وهو يبحث عن خلوة يمكن أن يخلو فيها إلى ذاته ليجد السكينة المفتقدة والخلوة التي تمكنه من التصالح مع الذات  : 

بغيتْ نتصنّت

 لعْظامِي
بغيتْ نتصالحْ مع

أيّامِي
بغيتْ كهفْ فيهْ

 نتْخَلوَى

..كما  يلاحظ الشاعر ويقارن ويميز بين البشر، فمن جعل الناس سواء  ليس لحمقه دواء:

اللي يبني

بالحجر
ما شي بحال اللي

 ينقش به
اللي يسمّر

 العوْد
ما شي بحال

 اللي يتبورد به

ويذكر كيف جاء  ليطلب الدفء والحماية  لكنه لم يجد إلا الصدود والإنكار :
جيتكم كتفي عريان

دفوني
منكم طالب لحمية، لا تلوموني
رانا غير مسيح
ذيَّعني الن… شاط
لخرين سلامهم

ركلة بالسباط
جايكم هربان بالمحبة
نخبي منها ماشاط
راني نبتت في دكالة و تقولبت في الرباط

  فهل ذلك سيجعل الشاعر يعيد النظر و يستعيد عقله ، ويخفي جرحه في كبرياء أو يسامح من قتله وأحاله إلى جليد  ..

خليني يا زماني ندير عقل
خليني نخبي جرحي ونكابر
ما في ما يعاند أو يقتل
مسامح من قتلني، له عاذر
وخا الروح بدات مني تسل
وليت جليد فوق لمجامر.
  
كم يعشق الشاعر الآن خلوة يخلد إليها …عند الوادي بعيدا عن جو المدينة السطحي و الخانق .. حيث أصبح لون الإنسان باهتا  و يابسا و مستلبا أمام الآلة التي حطمت إنسانيته ….
عشقي من الواد لهيه
ف خلوة
الريح تهدف فيها وتعدي
وخلوتك ورا الواد
تنَجْ الحكمة وتسدي
خلي بالك ف الخلوة

راالمدينة 

تدي وتودي

..
فيها الروح ف لفيترينا
فيها الحلم ولى يراوغ
فيها الإنسان بهت
اكشف لونو، ولى بياسا في مكينة

خاتمة ..الزجل اللغة الواصفة ..

قدم  الزجل المغربي في مجمله نصوصا أنثربولوجية رفيعة القيمة ، وصورا رائعة بليغة تطرب المتلقي  و تنصت لنبض عامة الناس، من خلال معايشة الشعراء  لهموم الجماعة ، وتعبيرهم عن الذات  المفرطة في الاحساس،  التي تحمل هم الكلمة و الحرف ،حيث نجد عددا من الشعراء الزجالين  يتحدثون عن الحرف و المعاناة في كتابة الحروف و نسج القصيدة الزجلية ، في نوع من اللغة الواصفة التي تعبر عن التأمل في كتابة القصيدة الزجلية ودورها الاجتماعي والتي تنم عن ثقافة متبصرة تكذب كل من يدعي بأن القصيدة الزجلية تعبر عن عقول و أذهان لم ترق إلى درجة معينة من الثقافة والوعي..

يقول أحمد المسيح عن القصيدة وعن الكلام الذي يشبهه بالزرع الذي يرويه الشاعر بذاته، يعني الكلام المبدع و ليس الكلام المنقول من الغير ، فهل المطلوب من الحرف ان يكتم سر  الصمت أم عليه أن يكشفه، لكن في الحرف حياة خاصة رغم أنه يقتات من موت ذات الشاعر ، لذلك يدعو الشاعر بل يأمر بالكتابة في مواجهة الزمان والوهم، و يتحدث عن عشقه وولهه بالقصيدة  التي لا يطيق صبرا على فراقها    :

اللي يزرع كلامو

بذاتو يرويه
ماشي بحال اللي

شد كلام الناس

ويعاود فيه

…….
الصَّمت نغمة مستورة
بعيدة
إيلا الحرف كتم سَرّو

…..
مُتْ أصاحْبي موووووت
مُت – يحيا الحرف
في حياتو نبْقى
ارحل أو نرحل


اكتب.. اكتب
اكتب بْلا ما تحسب
شوف الزمان- الوهم هو حسابو
بغيت نموت
عملت ما دارو الأولين
ما لقيت جواب
يا لالة القصيدة
ماني ساخي بيكتحية لجميع الزجالين و الشعراء

‏مقالات ذات صلة

Back to top button