‏آخر المستجداتلحظة تفكير

جليل طليمات: التحديث كمشروع حضاري

في الذكرى الثانية لرحيل المفكر محمد سبيلا

كعادته في فحص وتدقيق معاني المفاهيم والمصطلحات واستعمالاتها المختلفة, يلاحظ المفكر الراحل محمد سبيلا بأن التداول الشائع لعبارة “المشروع المجتمعي الحداثي” ,والخطاب المتضخم حوله , الرسمي منه والحزبي والجمعوي, هو خطاب يكتسي طابعا شعاراتيا وإيديولوجيا , يختزل التحديث في رزمانة من الإجراءات التحديثية لقطاعات المجتمع وبنياته التحتية والمؤسسية , بينما المشروع الحداثي هو في جوهره مشروع حضاري, ثقافي وفكري وسياسي واجتماعي ,غايته استنبات ثقافة الحداثة ,” وزرع بذورها بدل الاكتفاء بقطف ثمار شجرتها ” , بتعبيره البليغ , خاصة أن تجارب التحديث التقني التي عرفتها العديد من المجتمعات العربية في حقبة الستينيات أثبتت ” أن الثقافة التقليدية أرسخ في النفوس مما نظن” 1 ففي ظلها ازدهرت النزعات المحافظة ,والتيارات الأصولية المتطرفة وحركات الإسلام السياسي ,فتقوت مقاومة الحداثة الثقافية والفكرية والسياسية وتصاعدت إلى حد اغتيال عدد من رموزها ,والإفتاء بهدردم بعض أعلامها.

في ضوء درس تلك التجارب التحديثية الفاشلة التي تمت باسم التحرر والوحدة والاشتراكية, يعطي سبيلا بعدا أعمق ” لخطاب المشروع الحداثي” المتداول ,داعيا النخب الثقافية والفكرية والسياسية إلى تمثل مستوياته المتكاملة بشكل خلاق, فهذا المشروع “هو الاسم النوعي لمجموعة مشاريع فرعية ” 2 ,توقف عندها سبيلا في مختلف أعماله ,مشددا على ثلاثة منها باعتبارها مداخل رئيسة لأي مشروع حداثي بأفق حضاري , وهي بإيجاز :

_ ثقافة الديمقراطية : يعتبر سبيلا الديمقراطية ,كنظام سياسي شرطا لازما لأي انتقال من نمط المشروعية السياسية التقليدية إلى النمط الحديث والعصري, وذلك ما يقتضي توفير أرضية فكرية وثقافة سياسية جديدة ” تستمد جذورها من الثقافة اليبيرالية القائمة على عقيدة الحرية” 3 , فافتقار التجارب الديمقراطية العربية لثقافة المنظومة الديمقراطية هو ما جعلها ” بمثابة تمارين تمهيدية تفتقد العناصر الأولية للدخول الفعلي في المخاض الديمقراطي بمعناه الحديث ” 4 , ويقصد سبيلا بهذه العناصر المفاهيم المؤسسة للديمقراطية كثقافة حداثية : مفاهيم المشروعية والحرية , والمواطنة, والتعاقد,والحقوق..الخ , فضمور هذه المفاهيم في المجال السياسي العربي هو ما أدى إلى اختزال الديمقراطية في تقنيات الاقتراع وصناديقه الانتخابية ,وإلى فصل الديمقراطية,كاختيار سياسي عن أرضيتها الثقافية الحداثية , وبالتالي إلى “تنقيص من الديمقراطية وإخلال بأسسها وحرمان لها من روحها ” 5, وتحول تجاربها العربية إلى مجرد واجهة كرست المشروعية التقليدية بآليات وتقنيات الديمقراطية السياسية .

_تطور اجتماعي : يربط سبيلا المشروع التحديثي النهضوي بدور المجتمع وحضوره المؤثر في المجال العمومي , الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي.., وذلك عبر منظماته وجمعياته وهيئاته الحقوقية والنقابية وغيرها بما يجعل منه قوة مستقلة , اقتراحية ,مراقبة ومؤثرة في السياسات العمومية وقراراتها في مختلف المجالات ,” فمن دون تطور اجتماعي يجعل المجتمع قادرا على الدفاع عن نفسه, فإن الدولة بوسائلها يمكن أن تبني الديمقراطية على مقاسها (… ) ,وتحول الديمقراطية نفسها إلى آلية سيادة على المجتمع مقنعة بقناع ديمقراطي “6 ,

_تنمية اقتصادية متوازنة : إلى جانب هذين المكونين للمشروع الحداثي الحضاري ( ثقافة سياسية ديمقراطية , ومجتمع مدني فاعل ومستقل), يؤكد سبيلا على البعد الاقتصادي والاجتماعي, فبدون تنمية اقتصادية متوازنة,تحقق العدالة الاجتماعية ,وتضمن الحقوق الأساسية والحيوية للأفراد والجماعات,سيظل أي تحديث للمجتمع معاقا, وديمقراطيته عرجاء,فمفاصل المشروع الحضاري التحديثي لا تقبل التجزيء, في تصور سبيلا, فهي منظومة كلية واحدة ومتكاملة,يرتبط فيها عضويا السياسي بالاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والثقافي.

إن هذه المشاريع التحديثية لمختلف مجالات المجتمع تواجه عوائق موضوعية وذاتية ,حددها سبيلا في ما سماه ” التحدي المزدوج” : تحدي قوى التقليد والمحافظة التي تبدي رفضا ومقاومة للأرضية الفكرية للحداثة باسم التغريب والاستلاب بالنموذج الغربي, وتحدي سياسات الغرب الاستعمارية والعدوانية التي شكلت ,ومازالت خلفية تصدرعنها تلك المقاومة ,وتغذي نزعاتها المحافظة والمتطرفة , فذلك هوما يعيق ربح رهان التحديث الثقافي والسياسي للمجتمعات العربية , ويجعلها بالتالي” تعيش مخاض الحداثة العسير وتراوح الخطو على عتبة الحداثة” 7 . إن الأمر ’ يؤكد سبيلا لا يتعلق, موضوعيا, باختيار إرادي لنموذج الحداثة الغربية ,لأنها بوجهيها, وجه الحرية والعقلانية, ووجه الظلم والعدوان واللاعدالة أمست في عصرنا قوة كونية جارفة وكاسحة . لكن ذلك لا يبرر الانغلاق على الذات ورفض الحداثة الفكرية باسم عدوانية الغرب ,بل من ضرورات التحديث والنهضة ,كما يؤكد سبيلا ,الانفتاح على مكتسبات الحداثة في مختلف المجالات, واستيعاب واستلهام واستنبات ثقافتها العقلانية الحديثة من علوم إنسانية واجتماعية وتيارات فلسفية كبرى ,فذلك هو الأساس المتين لأي تحديث شامل, ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي وتقني ,وبكلمة جامعة,حضاري ..

و في المقابل ,إذا كانت النخب الثقافية التقليدية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية مطالبة بالتحرر من شرنقتها التراثية ,ومن فهمها الماضوي المتحجر للهوية والخصوصية , فإن نموذج الحداثة الغربية المهيمن كونيا مطالب هو أيضا, بالتحرر من عدوانيته واستعلائه وسياساته الدولية الظالمة التي شكلت ومازالت أحد مصادر التطرف والنزعات الماضوية والهوياتية النكوصية. في هذا السياق صاغ سبيلا بدقة هذه المعادلة الإشكالية التي يتوقف مشروع التحديث والنهضة كرهان حضاري على حلها ,يقول : “مثلما يطرح على التراث أن يفكر في التلاؤم مع معطيات الحداثة , فإنه يطرح على هذه الأخيرة أن تفكر في أساليب فك الارتباط بين مشروع التحرر والتقدم الذي تستنبطه الحضارة الغربية ,وبين ارتباطه العضوي بمشروع الهيمنة الغربي . إن هذه المعادلة التاريخية هي الرهان الصعب الذي ينتظر الحل في أي مشروع تحديثي نهضوي عربي, بل إن مآل كل المشاريع النهضوية القطاعية رهين بحل هذا الإشكال الأساسي” 8

لقد تميزت أعمال محمد سبيلا الفكرية الفلسفية في موضوع الحداثة كمنظومة فكرية فلسفية ومشروع لتجاوز مجتمعاتنا لتأخرها التاريخي بعمق وغنى معرفيين, وببعد بيداغوجي تنويري قرب مفهوم الحداثة ومضامينها الفلسفية من وعي أجيال من الطلبة والأساتذة والباحثين, وفي كل هذا المجهود النظري والبحثي والمعرفي والتربوي لم يكن سبيلا داعية أو مبشرا إيديولوجيا ,وإنما باحثا موضوعيا ,مسلحا بروح الفلسفة , بالنقد والاستشكال ,وصوغ الأسئلة والمفارقات بشكل لا متناه ,مع الابتعاد عن الأجوبة الجاهزة والنهائية ,هاجسه اجتراح أفق حداثتنا ونهضتنا الشاملة : الثقافية والسياسية والاجتماعية كمجتمعات ترزح تحت ثقل التقليد وقيود الماضي, تستهلك ثمار شجرة الحداثة , وتلعن جذورها الفكرية والمعرفية ., فسلام على روح المفكر والمناضل محمد سبيلا في ذكرى رحيله الثانية.

__________________________________

ـ 1 الحداثة و ما بعد الحداثة , ص 90

ـ 2ن م ص 99

ـ 3و4محمد سبيلا , دفاعا عن حقوق الإنسان سلسلة شراع العدد 19 _ ص72

ـ 5محمد سبيلا , المخاض العسير في الوطن العربي ’ مجلة النهضة العدد 1 , ص 130

ـ 6 م سبيلا , حقوق الإنسان والديمقراطية ص72

ـ 7 و 8 الحداثة وما بعد الحداثة ص 100

‏مقالات ذات صلة

Back to top button