لم أكتبْ لأحقِّقَ مالا ، أو أجدَ ما يُحققُ لي حياةً كريمةً عند التقاعدِ أو قبله ، أكتبُ فقط ، لأنَّني لا أعرفُ سوى أن أكتبَ ، وحيثُ لا مهنةَ لي غير الكتابةِ ، أما الآنَ وبعد الآن فيكتبُ المهندسون والأطباءُ والصيادلةُ ومرتادو المقاهي ولاعبو الكرة ، والعاطلون عن الحلمِ وعن العملِ وعن المواهب ، والسماسرة وربات البيوت و….لكنَّ دائمًا هناك نُقصانًا في كتاباتهم لا يدركُهُ سوى الخُلصاء من أهلِ الكتابةِ ، إذْ ليس كلُّ كتابٍ ، هو بالضرورةِ كتابٌ حتَّى لونُشِرَ ونَشرتْ عنه الصحافةُ، وتناوله النقادُ والعارفون بقصد التحية والمجاملة والتكريم وأداء الواجب.الكتابةُ هي التي تُغيِّرُ ، وهي القادرةُ على إحداثِ ثُقبٍ غائرٍ فيمن يقرؤها، بحيث يصيرُ إنسانًا آخرَ أثناء وعقبِ الانتهاءِ منَ القراءةِ. فرغم مُرور سنواتٍ على الإمساكِ بالقلمِ، ومُمارستي الكتابةَ طُوالَ العُمر، ما زلتُ أخشى الورقَ والحبرَ ، وأهرُبُ من الكتابة ذاهبًا نحو القراءة، إذ كلُّ كتابةٍ مسؤوليةٌ جسيمةٌ ، ومحفوفةٌ بخطرِ مُساءلة الذاتِ وتقويمِ الآخر. الكتابةُ صعبةٌ ومرهقةٌ ، والله يُحبُّ من عباده من يقرؤون أكثر ممن يكتبونَ ، ولذا خاطبَ نبيه ب ” اقرأ ” ، ولم يقلْ له ” اكتبْ ” . فرُبَّ كتاب واحد أهمُ من مئةٍ ، وكما أنَّ للذهب ميزانًا خاصًا ، فإنَّ للحرفِ ميزانًا أكثر حساسيةً ، لأنَّ الكلامَ يُحي ويُميتُ ، ولو أحصينا الذين ماتوا ب” سكتة الكلام ” سنجدهم الأكثرية ، وعلى رأسهم صلاح عبد الصبور ، إضافةً إلى البشرِ الذين لا نعرفُهم ، كما أنَّ الذين يحيونَ بالكلام نسبة من أهل الأرضِ لا يُستهانُ بها . فنحن من يخلُقُ الأحلامَ ، ونشرِكُ قارئنا فيها، وندعوه لأنْ يكونَ مكان الكاتبِ ويتوحدَ معه ، وهذا لا يتحققُ إلا في حال الصدقِ والحقيقةِ، وبدونهما يكُونُ فعلُ الكلام ناقصًا وغيرَ مُجْدٍ ، ولا يُعَوَّلُ عليه ، والحلم الذي يحلمُ المبدعُ به ، هو من كان حلما حيًّا ودائمًا ، حتى لو كان من المستحيلِ تحقيقه ، إذْ كلُّ أمرٍ نراه الآنَ ونُمارسُهُ كان قبل لمسِه خيالا شاطحًا ، ومن المستحيلات الأربعة كما هو شائع بين الناس .والكتابةُ كالحُبِّ لا يمكنُ التخطيطُ لها مُسبقا ، لكن لابد لها من رُوحٍ ونفسٍ وقلبٍ ، تتسمُ جميعها بالشفافية والصحة من أمراضٍ كالغيرةِ والحسدِ والحقدِ والكآبةِ التي تصيبُ البشر من ناقصي العقول والنفوس ، لأنَّ نصفَ نفسٍ لا يمكنُ لها أن تنتج كتابةً سويَّةً .فالفلاح في قريتنا عندما يدفنُ بذورَه تحتَ الأرض يعرفُ أنها ستنبتُ ، ولكن على أي شكلٍ؟ لايعرفُ ، لكنَّهُ يحدسُ ، ويُمَنِّي نفسه أنَّ الترابَ سيطرحُ له تبرا ، مثلما يُقال في كتبِ الأسبقين ، هو أكثرُ البشرتفاؤلا ، ولديه آمالٌ غالبا ما تتحققُ جميعها ، إذ يعرفُ أنه في نهاية الدورة الزراعية سيحصدُ محصُولا ، الكاتب – الشاعر أيضًا لن تطرحَ أرضُه إلا إذا حرثها بمحراثِ القراءة والفهم والوعي ومعرفة الذات أولا قبل معرفة الآخر . الكاتبُ يلدُ ، ويُولدُ ، وإذا باضَ فلنْ تكونَ بيضتَهُ كبيضةَ الديكِ ، واحدةً منسيةً ، لا يذكرُها سواه . وهناك من الكتَّاب من يكتبُ لسنواتٍ طويلةٍ دُونَ أن يكشفَ سرَّهُ ، ولذا ينبغي لنا ساعة الكتابة من النظرِ عميقًا إلى الداخل ، والتمهل ، والتأمل ، والتركيز . فهناك من يتزوجُ لنصف قرنٍ من الزمان ولا يعرفُ ما الحبُّ وما المرأةُ وما أسرارُ جسدها ، هو فقط يفعلُ ما حكته له قبيلتُه في ليالي الصيف والشتاء ، حيث فضُّ الأسرار والثرثرةُ الفارغةُ عن الفحولةِ الجوفاء ، تمامًا كالكلام الذي لا يلدُ ولا يستطيعُ أن ينكِح العقولَ إذا ما استخدمتُ هنا تعبير الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي .فمنْ لم يُنصت إلى قلبه المُتسارع أو الخفيض أو المضطرب ، كيف له أن يُشخِّصَ من هم مصابون بأمراض القلب. واعلمْ أنَّ كلَّ الذين عاشوا من الكتَّاب قد نجحوا واستمروا في الضميرِ ، لأنهم كتبوا عما يعرفون فقط ، دُون ادعاءٍ أو مُعاظلةٍ ، أو القفزِ في فراغٍ لا يعرفونَ هاويتهُ أو هويتهُ .
مقالات ذات صلة
شاهد أيضا
Close