‏آخر المستجداتفنون وثقافة

د مولاي علي الخامري: ارتسامات أولية على مضامين كتاب إسماعيل زويريق “شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء”

لا يخفى على أهل الفكر والإبداع ما لكتب التراجم من أهمية قصوى في إثبات وتحديد الآليات العامة التي تتحكم في الإنسان المبدع ، وفي العوامل المختلفة التي كونت موهبته وذائقته ، وأثرت في مساره الإبداعي بطرق متعددة ومتنوعة .

ويكون الموقف واضحا أكثر إذا كانت تلك المعلومات تؤخذ من المجالسات القريبة ، والحوار المباشر ، والرواية الشفوية الموثوقة كما فعل الشاعر إسماعيل زويريق في كتابه المفيد : ( شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء ) فكلمة ( عرفتهم ) فيها دليل على ثبوت اللقاء كما يقول المحدثون ، أو ثبوت ما يشبهه بواسطة تلك اللقاءات والأحاديث التي تجري على ألسنة من له معرفة بالشعراء الواردين في الكتاب ، وإذ ذاك تحضر شخصية المؤلف من أجل الانتباه والتدوين ، ويجد ما يسعى إليه ، ويستلذ بمحتواه ، فينطلق عبر تأملات وأسئلة لإزالة اللبس الممكن في رحلة البحث عن الحقيقة .

غلاف الكتاب

إسماعيل زويريق لم يكن مرتاحا تماما وهو يجمع مادة كتابه عبر سنوات طويلة ، وقد عبر بنفسه عن تلك القلاقل التي أحس بها ، وعن تلك التوجسات النفسية التي خامرته ، وخالطت أحشاءه ، ويمكن أن نضع ما جاء في كل مقدمة الكتاب الصريحة ضمن ما قلناه ، ويسعدنا أن نجزئه على فقرات متمايزة للتسهيل على القارئ الكريم من جهة التصور والفهم والاستنتاج :

1 – يقول عن الانطلاقة الأولى في تملك وبناء مواد الكتاب ، والمغامرات المتصلة به من جميع الجهات ما يلي : ( أما بعد ، فطالما راودتني فكرة الكتابة في هذا الموضوع ، واستهواني الخوض في تحقيق هذا المشروع ، فحملت ذلك في نفسي زمنا طويلا ، ونُؤتُ بحمل عبئه منذ أمد ليس بالقصير ، فكنت أقدم رجلا ساعيا ، وأؤخر رجلا راضيا ، خوفا مما سينجم عن هذا من قيل وقال ، وما سأسمعه من كلام قد لا يرضي أذنا واعية ، إلا أن ذلك لم يثنني عن عزمي ، ولم يؤخرني عن قصدي…….) .

2 – ذكر بعض أمثلة من العوائق المصاحبة لكتابة بحثه ، ومنها ما هو خارج عن ميازين النقد الرصين ، وربما يدخل في أبواب التخمينات ، وبسط أمراض النفوس السلبية ، يقول : (….وبالرغم من ذلك سمعت من الأقوال ما يمكن أن يثبط العزيمة ، ويحمل على نبذ هذه الفكرة لولا إيماني بجدوى العمل ، فقد قال بعضهم عفا الله عنه : سبحان الله ما بدأ أحد الكتابة في هذا الموضوع إلا وعاجلته المنية ، وحالت دون تحقيق غايته ، فقد بدأه الحاج أحمد بوستة فمات رحمه الله ، وبدأه محمد المختار السوسي فمات كذلك ، فضحكت من سخافة هذا القول وأجبت : إذا كان الأمر كما ظننت فهنيئا لي بطول العمر ، لأن أولئك اختاروا الكتابة عن الأموات ، وأنا اخترت الكتابة عن الأحياء ، ولعل من اختار الكتابة على صنف من هذين سيكون منه ) .

وهناك أنواع أخرى من تلك العوائق ، توسع في سرد مظاهرها المعبرة عن المرض والتقزز في ثنايا المقدمة ، فليراجعها كل من شاء التفصيل والتدقيق .

3 – الكاتب إسماعيل زويريق اختار بوعيه الأسسَ التي يراها كفيلة بنعت المبدع بوصف الشعر ، وفي أثناء تكوين الموقف لم يسلم من لعنة التردد المصاحبة للمقاييس المعتبرة في مجال الإبداع ، ولئن تحكمت في تأليفه بغية الجمع ، ومدى قرب واستجابة الشاعر لدعوات المؤلف ، وتغلبت في النهاية على آلية التمحيص والتقيد بمعايير الشعر أكثر فإن جميع ذلك يُقبل على أساس معرفتنا بسلامة طوية المؤلف ، وكونه شاعرا ، راكم تجربة عريضة من السنين والأعمال ، بالإضافة إلى اهتمامه بخاصية الجمع والتدوين ، وإهمال ما سواها ، يقول : ( ولقد كان علي ألا أختار غير من ذهب صيته ، وعُرِف قدره ، لكنني ارتأيت أن هذا هضم لحق ، فراجعت نفسي ، وأثبت كل من ذكر في الشعراء ممن استجاب للرغبة ، ووجدت إليه سبيلا ، فقد كان البعض مُذَّرِعا بما لا يسر ذكره ) .

4 – وتتميما من المؤلف لهذا المسار المتعلق بكيفية الاختيار ، وهو العارف بما يجول بالوسط الثقافي العام تَنَبَّه إلى ما سيثار حول الكتاب ومن جميع المستويات ، وبسبب ذلك كانت له بعض التخريجات الموفقة لتبرير بعض مواد الكتاب وإن صار فيها على نهج ثنائية المفهوم والمنطوق كما هو الأمر عند علماء الأصول ، يقول ذاكرا تشجيع مشجع له ، لم يفصح عن اسمه : (…..ولقد زاد أول لقاء لي معه في تشجيعي ، ومكنني من عزيمة قوية حملتني على ألا أقف مُؤَجِّلا ، فكان أن اتصلت بكل مرموق منهم ، كما نقبت عن المغمور فوجدت فيهم رحابة صدر ، واستجابة مشجعة ، ولقد أمدني كل واحد بما طلبت ، وخصص لي من وقته الثمين ما أحببت……) .

5 – الكتاب ضم حوالي ثلاثة وثمانين إسما من مختلف الأجيال ، يجمعهم وصف المعاصرة كما يستفاد من عنوان الكتاب ، وقد نص عليه المؤلف في مقدمته حين قال بلغة تنتصر للمعايير الذاتية في معنى الشعر ، ولا تخلو من التنديد بمواقف السلب الملاحظة ، يقول : ( زرت الكثير منهم ” الشعراء ” في منازلهم ، وزارني الكثير منهم في منزلي ، وجالستهم جلسات كشفت لي الكثير من جوانب حياتهم ، ولقد وجدت في أشعارهم ما يعجب ، وفي قصائدهم ما يفيد ويطرب ، وإن كان من بعضهم التسويف والإعراض حملني على عدم طرق بابه ، ولا على إدراج اسمه ) .

6 – المؤلف كان صادقا في كل مقاييسه ، وحافظا لود الشعر الجامع بين شعراء الكتاب ، فقد كان في أوصافه محقا ومنصفا ، مُغَلِّبا جوانب الإبداع فيها على جوانب العلاقة الشخصية ، فالكثير من سوء الفهم خيم على تلك العلاقات ، وأنزلها إلى حضيض البرودة والتوتر ومع ذلك بقي المؤلف حافظا على خيط الإبداع الشعري ، وليست له تطلعات أخرى سوى ما يتعلق بالشعر ، وهو الموقف ذاته عند كثير من الأصدقاء ، وأتمنى أن يأتي يوم تختفي كل هذه المواقف السلبية البعيدة عن المنطق وعبق الأخوة الماضية ، وسيكون ذلك بمثابة احتفال جماعي جميل بقيمة الشعر ، وبقيمة كتاب إسماعيل زويرق ، لأنه ينم عن خطوات إيجابية تحققت لشعراء مراكش المعاصرين خاصة .

7 – سأختم بذكر نماذج من مزايا كتاب : ( شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء ) المستفادة من الرواية الشفوية التي لا يمكن أن يعثر الباحث على مضمونها وتفاصيلها إلا من خلال الكتاب المذكور ، وسأختار هنا ماجاء في حق شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم ، يقول المؤلف عن المَعين الأول لشعره في الجزء الثاني ، الصفحة 345 : ( عاش وحيدا ، ولم يجد من يملأ عليه فراغه الموحش ، ويطرد على وكره طير السأم إلا ربة الشعر التي محضته من الحب ما لم يجد عند سواها ، فاستجاب لما يجيش به صدره كلما زارته ، وترك من الشعر الكثير…..) .

وعن لقبه يقول بتوسع ومقارنة : ( لقد غلب عليه لقب شاعر الحمراء كما غلب لقب شاعر النيل على حافظ إبراهيم ، وكما غلب شاعر الخضراء على أبي القاسم الشابي ) .

وهناك مرويات عن شاعر الحمراء حازها المؤلف من خلال حضوره لبعض الجلسات الفكرية الخاصة ، وكانت تتخذ من شعر ابن إبراهيم موضوعا يجري فيه الكلام على مستويات عديدة إما بصفة مباشرة ، أو غير مباشرة ، ولكنه في النهاية كان يقود إلى نتائج جميلة ومبهرة ، ومن أمثلته ما جاء على لسان من سماه المؤلف بالفقيه سي رحال الذي يتهم ابن إبراهيم بالسرقة من شعر ابن الأعمى ، يقول ” الجزء الثاني ، الصفحة : 348 : (……وهكذا إلى أن أتى على شرح أبيات القصيدة الخمسة والأربعين ، ثم التفت إلينا سائلا : لقد أخذ شاعركم جملة من معاني هذه القصيدة ، فمن هو ؟ فَحِرنا جوابا حتى الشيخ لم يكن يعرف من هو هذا الذي سطا على قصيدة ابن الأعمى سلخا ومسخا كما قال ، بعد أن لمس فينا العجز قال : ذلك شاعر الحمراء في قصيدته المطعم البلدي ، ثم قارن بين هذه وتلك موضحا أوجه التشابه في كثير من أبياتها……..) .

مثل هذا الكلام لا يمكن إن تجده في مصدر مكتوب ، وإنما هو من معطيات الرواية الشفوية القائمة على المذاكرة الحية في مجالس أهل العلم والإبداع ، وأحسبها الميزة الكبرى لمؤلف الشاعر إسماعيل زويريق : ( شعراء عرفتهم من مدينة الحمراء ) .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button