‏آخر المستجداتلحظة تفكير

ارهاصات نظام عالمي جديد قيد التشكل.. الأزمة الأوكرانية سنة أولى تغيير (الجزء1)

بقلم: اسلامة بيرة* (طالب في سلك الدكتوراه)

ملخص:

يتناول هذا المقال في اطار تحليلي لاحداث ومؤشرات هامة من حيث قوة التاثيريجعلها تصلح قياسا لانهاء وضع دولي ذي قطبية أحادية بزعامة الولايات المتحدة، استقر منذ ازيد من ثلاثة عقود عقب انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يشكل الثنائية القطبية بصفته قائد الكتلة الشرقية التي وسمت النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية الى بداية تسعينيات القرن الماضي. هذا الوضع الأحادي ضيق هامش المناورة على كثير من دول المعمور لا سيما دول المعسكر الشرقي بعد انكفاء تكتلها ودول العالم الثالث التي لم تكن تدور في الفلك الامريكي/الغربي، بل وحتى دول عدم الانحياز، فشهد العالم اختلالات عديدة فرضتها أساليب الهيمنة والاستبداد والانانيات التي لا تقف عند حد، وأصبحت الشرعية تفهم من خلال وجهة نظر واحدة خارج اطار التداول وفوق المؤسساتية التي تمثلها منظمة الأمم المتحدة ومجلس الامن الدولي، فعاش العالم فترة من انعدام الثقة والامن والسلم الدوليين، وسادت الازمات والحروب والتدخلات في الشؤون الداخلية للدول، وتغيير الحكومات وتقسيم الدول. هذا الوضع الصراعي خلق تطلعات الى مقاومته ظلت تغذيها تطورات الاحداث وتوحدها معاناة العالم من دكتاتورية قطب واحد يسعى الى السيطرة على الجميع ولا يقبل القسمة. لذلك سعى أصحاب هذه التطلعات المقاومة الى قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب او على الأقل ثنائي القطبية يرجع التوازن المفقود لا سيما وان المؤسسات الدولية التي بنيت وفقه لا تزال ولو في في شكل صوري. لذلك فاستقراء هذه المؤشرات كفيل باستشراف المستقبل الذي ينتظر قمة النظام الدولي تحديدا، وجعل الزعامة متعددة. هذه القراءة تمت في كثير منها بشكل متزامن مع بعض الاحداث خصوصا الازمة الأوكرانية ـ مع الرجوع والاستشهاد باحداث سابقة كلما دعى التحليل الى ذلك ـ رغم انها لم تنته بعد، مع هيمنة المرجع الإعلامي. 

الكلمات المفاتيح: الازمة الأوكرانية، النظام العالمي الجديد، الأحادية القطبية، التعددية القطبية.

Summary :

This article deals with, in the framework of an analysis, important events and indicators in terms of the power of influence, making it suitable as a measurement for ending a unipolar international situation led by the United States, which settled for more than three decades after the collapse of the Soviet Union, which was bipolar in its capacity as the leader of the eastern bloc that marked the international system after the war Second World War to the beginning of the nineties of the last century. This unilateral position narrowed the margin of maneuver for many countries of the globe, especially the countries of the eastern camp after the withdrawal of their bloc and the third world countries that were not revolving in the American/Western orbit, and even the non-aligned countries The world witnessed many imbalances imposed by the methods of hegemony, tyranny, and selfishness that do not stop at an end, and legitimacy became understood through a single point of view outside the framework of deliberation and above the institutional represented by the United Nations and the International Security Council, so the world lived a period of lack of international trust, security and peace, and crises and wars prevailed Intervention in the internal affairs of states, changing governments and dividing states. This conflict situation has created aspirations for its resistance that have been fueled by the developments of events and united by the suffering of the world from the dictatorship of one pole that seeks to control everyone and does not accept division. . Therefore, the owners of these resistant aspirations sought to establish a multipolar world order, or at least a bipolar world order that would restore the lost balance, especially since the international institutions that were built according to it are still, albeit in a formal form. Therefore, extrapolation of these indicators is sufficient to anticipate the future that awaits the summit of the international system in particular, and to make the leadership multifaceted. This reading took place in many of them simultaneously with some events, especially the Ukrainian crisis – with reference and citation of previous events whenever the analysis calls for that – although it has not ended yet, with the dominance of the media reference.

Key words: the Ukrainian crisis, the new world order, unipolarity, multipolarity.

مقدمة:

لعل صرخة جوزيب بوريل [1]الساخطة: بان روسيا والصين قوتان تطرحان “المراجعة” وتحاولان تغيير النظام العالمي الحالي. تعكس عمق التخوف الاوربي من الامر سيما وان مسرح الاحداث لن يكون غير القارة العجوز كما كان الشأن دائما بعد الحربين العالميتين وما ترتب عنهما من ويلات لأروبا التي فقدت بالإضافة الى مكوناتها البشرية والصناعية والاقتصادية، ريادتها وموقعها القيادي، والحديث هنا عن اروبا الامبريالية او الامبراطوريات القديمة، لفائدة روسيا وان كانت تنتمي مثلهم الى الامبراطوريات التاريخية او للولايات المتحدة الامريكية حديثة التكوين والخبرة التاريخية الامبريالية، وهو ما ميز ويميز سياساتها التي تفتقد الكثير من الرزانة وتقدير الاوضاع بالنسبة لحلفائها او تابعيها كما هو الحال الآن فضلا عن خصومها، حيث المصلحة تأتي دائما مصحوبة بصلف وانانية لا يقفان عند سقف اخلاقي او قانوني، ولو اقتضى الامر اختلاق اكاذيب وارتكاب جرائم ضد الانسانية.

فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود اي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي والعلاقات الدولية تشهد حالة من السيولة، بين نظام يسعى الى حصد نتائج انتصار لم تزكها معطيات معركة مسلحة في قمة النظام السابق بين القطبين، وانشاء آلية جديدة للنظام على غرار ما سبق حيث انشئت عصبة الامم بعد الحرب العالمية الاولى او الامم المتحدة التي ورثتها بعد الحرب العالمية الثانية، على قاعدة مفادها ان افول اي نظام ينسحب على آلياته. بل انهار المعسكر الاشتراكي تلقائيا ولأسباب اقتصادية وتنظيمية اساسا دون حرب او تدخل مسلح، اي حرب باردة كما كانت تسمى في الادبيات السياسية، وبقي النظام العالمي “الجديد” [2] بنفس آلية النظام القديم ممثلة في منظمة الامم المتحدة ومجلس الامن اللذين اصبحا يمثلان عائقا امام المعسكر الغربي المنتصر وطموحاته. لانهما تأسسا على ثنائية قطبية واضحة المعالم وهو ما سينتج عنه محاولة امريكا والغرب من ورائها تجاوزهما في مناسبات متكررة سواء باستصدار قرارات فضفاضة من مجلس الامن وتجاوزها بعد ذلك او التصرف من خارج مجلس الامن بكل بساطة. وهو ما خلق الاسباب الموضوعية لمحاولة التصدي لهذه التجاوزات الصارخة للشرعية الدولية المستمرة في الوجود شكلا او كمنصة لمعاقبة الضعفاء وتحديدا حلفاء الكتلة الشرقية او من يخرج عن الهيمنة الغربية عموما، وهو الامر الذي جعل القوى الكبرى خصوصا الصين وروسيا التي لم تنج من هذا الغلظ الغربي ان تتمسك اولا بالشرعية الدولية ما وجدت الى ذلك سبيلا او بخرقها اسوة بالغرب اذا اضطرتها المصالح الوجودية، فالغرب ممثلا بالولايات المتحدة ذي النزعة المانوية [3]معتبرا نفسه اصل النور وحد الآخرين ضده فنظام الهيمنة والرؤية الواحدة الفوق شرعية النظام الدولي او غير الخاضعة له الا في ما وافق مصالحه لن يستمر وستسعى القوى المتصارعة الى العودة الى نظام متعدد الاطراف اساسه الشرعية الدولية واعادة التوافق وهو ما يفسر الدعوات المتكررة الى اصلاح مجلس الامن وتحديدا انظمة الفيتو والمقاعد الدائمة. ويضيف جوزيب بوريل محذرا: “بعد ثلاثين عاما من نهاية الحرب الباردة، نواجه جهودا حازمة لإعادة تحديد النظام متعدد الاطراف. انه عمل تحد انه بيان تنقيحي، بيان لمراجعة النظام العالمي”.

وإذا اضفنا النظرة الاستعلائية التي تميز العقل الامريكي الذي يرى ان نموذجه الليبرالي والديمقراطي قد وضع حدا لتطور الافكار الأيدولوجية، حسب ما بشر به منظروه خصوصا فوكوياما سنة 1992 في كتابه “نهاية التاريخ” اي حين “الانتصار” كصورة نهائية للنموذج السياسي الذي انتهى اليه تطور الفكر الغربي.[4] تجعل المعسكر الغربي غير مدرك تماما في ظل نشوة انتصاره ان نظام القطب الواحد يمثل تحديا غير عادل بل ومفروضا ليس فقط على روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي السابق بل على مجموعة من الدول الصاعدة الى قمة النظام العالمي مع كل ما يعنيه ذلك من طموح للعب ادوار فيه، خصوصا العملاق الصيني القادم بقوة، كما انها ضد الديمقراطية التي تعني في أصلها التعددية وتعتبر الحزب الوحيد والراي الاوحد دكتاتورية.

وعليه فان الاحادية القطبية لا تعدو ان تكون مرحلة انتقالية فقط بين مرحلة الثنائية القطبية التي انتهت والتعددية القطبية التي تمثل النظام العالمي الجديد الذي بدأت بوادره تتشكل، فالعالم متعدد الاقطاب اتجاه تاريخي لا يمكن مقاومته، لان تنمية نظام متعدد الاقطاب تؤدي الى السلام العالمي. وكما ذكر الرئيس الصيني السابق جيانغ زيمين في احدى خطبه: ان العالم بات يتسم بتعدد الاقطاب، ومن ثم انتفاء قدرة قوة واحدة على الانفراد بالسيطرة[5].

وحتى نتعمق أكثر في فهم اسباب الهيمنة الامريكية التي بفضلها تسيدت امريكا وبسطت نفوذها بشكل جلي على السياسة الدولية مخضعة اياها لرغباتها ومصالحها، والتي تتلخص في ثلاث مؤسسات/منصات رئيسية: سياسية واقتصادية وعسكرية. وهي على التوالي: الامم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين وحلف شمال الاطلسي. والتي استخدمتها بشكل مفرط في التجاوز والظلم وخرق القانون الدولي في عدة مناسبات وتحت ذرائع كيدية في الغالب، كالحرب في كوسوفو وافغانستان والعراق وليبيا واليمن وسوريا، وهي تجاوزات تعكس رؤية سياسية ذات لون واحد ومكاييل متعددة حيث توحشت حد التطرف في ممارساتها كما السابق وهي التي لم تتورع في استخدام السلاح النووي مرتين في هيروشيما وناكازاكي  والنابالم واليورانيوم المنضب وقنابل الفوسفور وباقي الاسلحة المحرمة دوليا، في كل من الفيتنام والعراق، وايدت الانقلابات  ودعمت الكيان الصهيوني وحمته عسكريا وسياسيا بالفيتو. كما حمت الانظمة الفاسدة بشرط ولائها لها رغم سجلاتها الغير مشرفة في حقوق الانسان التي من اجلها اسقطت انظمة واختلقت حروبا واستصدرت قرارات وفرضت عقوبات اقتصادية بل وحصارات كان اول ضحاياها الشعوب. وكل هذا وضع امريكا في موقف اخلاقي غير مشرف، ناتج عن مسؤوليتها في العديد من اشكال الظلم الصريح، خدش صورتها لدى الراي العام الدولي وجلب عليها من الكراهية أكثر مما جلب لها من الجاذبية والانبهار بنموذج ما فتئت تسعى لتسييده قوامه التحضر والديمقراطية وحقوق الانسان، حتى وان سعت الى معارضة نظام محكمة الجنايات الدولية خوفا من المثول امامها دون ان تتوانى عن تقديم المسؤولين عن جرائم الحرب والابادة الجماعية غير الامريكيين والموالين لها طبعا في كل من رواندا ويوغوسلافيا وهو ما يعني قمة التناقض.

المبحث الأول: بوادر افول النظام العالمي الحالي.

إذا كان المحللون يؤرخون لبداية افول الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفياتي بثورات 1989 والتي انطلقت شرارتها الاولى من بولندا، مستكملة مسيرتها في المجر والمانيا الشرقية وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا فسقوط جدار برلين في 9 من تشرين الثاني / نوفمبر 1989 كعلامة فارقة على توحيد المانيا، وانحسار الشيوعية التي سينهار قائد معسكرها الاتحاد السوفياتي بحله في 26 دجنبر1991، بعد حل حلف وارسو الذراع العسكري للكتلة الشرقية قبل ذلك في يوليو1991.

فيمكن كذلك بالمقابل اعتبار الخروج المذل لأمريكا من افغانستان والذي يبتعد بشكل كبير عن الانسحاب المنظم، ايذانا ببداية افول نجم الدولة القائدة للنظام العالمي ما بعد الحرب الباردة، وانتهاء الثنائية القطبية. فالولايات المتحدة عملت طوال تاريخها القصير جدا على اقتناص الفرص، حيث انها تصدرت المشهد بعدما بدت بوادر انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، بعد ان عملت بداية على سياسة الناي بالنفس ومبدا الانعزالية او الاقتصار في اقصى الاحوال على دعم الحلفاء بالسلاح والعتاد والمؤن وفق قروض مالية، جعلت منها اكبر دائن لأروبا بعد ان كانت مدينة لها قبل الحرب، وخدعت الجميع خصوصا اروبا التي كانت مسرح العمليات الحربية ونالت ما نالته من تدمير للبنيات التحتية والديمغرافية، فسحبت البساط الريادي من بريطانيا كما عبر عن ذلك رئيس وزرائها ونستون تشرشل في مذكراته بالقول: ان الرئيس الامريكي روزفلت اخذ مني الامبراطورية وانا انظر، ثم استغلت عملية اعادة بناء اروبا عبر مشروع مارشال الذي مولته بعقود اذعان طويلة الامد، فحتى منجزاتها العسكرية في تلك الحرب لم تكن مثلا بمستوى انجازات الاتحاد السوفياتي الذي فقد اكثر من 25 مليون نسمة وكان له الفضل في استنزاف الجيش الالماني وهزيمته ودخول برلين حتى قبل الحلفاء، بينما لا يحسب للولايات المتحدة الا القاؤها للقنبلتين النوويتين على هيروشيما وناكازاكي وهو اجراء اجرامي لم يكن ضروريا ابدا بحكم ان اليابان كانت في عداد المنهزم. الا ان امريكا قد ارادت من استعمال هذا السلاح المرعب، الاستعراض اولا ثم الترهيب ثانيا، وهو امر سيصبح طابعا يميز السياسة الامريكية في تعاملاتها الاقليمية وتعاطيها مع كل ازمة ترى فيها فرصة للتدخل.

كما يميز امريكا كونها تسعى الى ان تكون كل الحروب بعيدا عن اقليمها واراضيها، بل وحتى عن جوارها، فقد سنت مبدأ مونرو[6] لتمنع اي تدخل أجنبي في شؤون القارة الامريكية الجنوبية وجعله حكرا لها وحصرا عليها، بينما تبيح لنفسها التدخل في الاقاليم البعيدة عنها. كما انها تسعى الى ما يسمى بالحرب بالوكالة او الحرب الهجينة[7] عبر دعم الموالين لها او التورط المباشر في حروب مع دول صغيرة وضعيفة ورغم ذلك فقد منيت بهزائم عسكرية واخلاقية في كل من كوبا والفيتنام والصومال والعراق واخيرا في افغانستان.

لذلك عملت على خلق توتر بأروبا له أكثر من هدف ان على المدى القصير او الآني او المدى المتوسط او البعيد الاستراتيجي، معتمدة على نفس التكتيكات التي دأبت عليها فعمدت منذ مدة على الخرق الممنهج للاتفاقيات التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكيك حلف وارسو خصوصا اتفاقية 1992 التي تقضي بعدم التوسع شرقا ومنع اي انضمام لدول الكتلة الشرقية. وحسب تصريح ممثل الصين لدى الامم المتحدة: فان توسع حلف الناتو شرقا لم يؤد فقط الى زعزعة الامن والاستقرار في اروبا، بل ادى الى زرع بذور الصراع كما ان حلف الناتو اضحى المحرض الاول على النزاعات والحروب ضد الدول ذات السيادة. فخلافا للجوهر الدفاعي المعلن فقد شن الحلف الغربي عمدا حروبا ضد دول ذات سيادة خلفت ضحايا بين السكان وكوارث انسانية. فمنذ 2014 تم تحريض اوكرانيا للتحرش بروسيا وهو الامر الذي سيثير غضب هذه الاخيرة واحتجاجها أكثر من مرة وتوتر العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة التي كلما وجدت فرصة لزيادة منسوب الضغط او بالأصح كلما فشلت في احدى جبهاتها المتعددة الداخلية او الخارجية عمدت الى التنفيس بخلق بؤرة جديدة او احياء اخرى.

كما ان لأمريكا أكثر من مصلحة في هذا الصراع حمال الاوجه فهو يصب في تحجيم دور روسيا ومواصلة احتوائها وكذلك احتواء اروبا اقتصاديا بخلق توتر يبطئ من نموها الاقتصادي المطرد خصوصا الاقتصاد الالماني المرعب ومنع اي تقارب له مع روسيا، وعسكريا بإعادة تأكيد حاجة اروبا الى المظلة الامنية الامريكية واستعمال فزاعة الدب الروسي، كما قدمت اوكرانيا للولايات المتحدة شكلا من “تعزيز الصادرات” من خلال استثارة اروبا كافة وسعيها الى شراء السلاح الامريكي ليكافئ السلاح الروسي، ومن ثم استنزاف ثرواتها. تماما كما فعلت وتفعل اسرائيل ذلك لأجلها في الشرق الاوسط حسب راي ناعوم تشومسكي[8].

المطلب الأول: اسباب اندلاع الحرب في اوكرانيا:

فضلا عن كونها كانت ضمن حلف وارسو والكتلة الشرقية فان لأوكرانيا وضعا خاصا لدى روسيا فهي الدولة المحاذية لحدودها الغربية 1200 كلم وقد كانت تضم ثلث القوة النووية للاتحاد السوفياتي ، كما ان روسيا تنظر الى اوكرانيا على انها دولة انشاها الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية وهو امر غير دقيق نسبيا فقد سبق ان كانت بأوكرانيا حركة قومية اوكرانية يؤكد الروس ايضا انها من اصول نازية وهو امر اكيد بدليل انها كانت ظهيرا وحليفا لألمانيا الهتلرية في حربها على الاتحاد السوفياتي الذي قدم بالمناسبة  في سبيل تخليص العالم واروبا من النازية حوالي نصف ضحايا الحرب العالمية الثانية ( 25 مليون قتيل )، ثم اغتال بعد ذلك جهاز المخابرات السوفياتي الكا جي بي في 1959 بميونيخ زعيم الحركة القومية الاوكرانية ستيبان بنديرا، وهذا الامر وحده كاف لتبيان الجحود الاوربي خصوصا وعدم مصداقيته كما يفسر انبعاث النازيين الجدد بأوكرانيا وكتيبة آزوف النازية نموذجا له.

ومنذ تفكك الاتحاد السوفياتي والعلاقة بين وريثته روسيا والغرب تشهد ازمات متكررة لا تخلو من بصمات أمريكية  وتحديدا في اوكرانيا  التي انشات روسيا معها بالإضافة الى بيلاروسيا رابطة الدول المستقلة الا ان اوكرانيا ظلت اقرب الى الغرب رغم شحنات الغاز الروسي الرخيص، وهو ما ازعج الكرملين الا ان الامر بقي في حدود ما دون الصراع طوال عقد التسعينيات لأسباب تتعلق بروسيا منها الاقتصاد المتدهور خصوصا والحرب في الشيشان عام 1997 واعتراف موسكو رسميا في ” العقد الكبير” بحدود اوكرانيا بما فيها شبه جزيرة القرم ذات الغالبية الناطقة باللغة الروسية، وقد شهدت موسكو وكييف اول ازمة ديبلوماسية كبيرة  في خريف عام 2003 عندما بدأت روسيا ببناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة “كوسا توسلا” الاوكرانية وهو ما اعتبرته كييف محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين وانتهت الازمة بإيقاف بناء السد، عقب لقاء ثنائي بين رئيسي البلدين الا ان بذور الشقاق بدأت تتجذر.

فأثناء الانتخابات الرئاسية بأوكرانيا عام 2004 والتي شهدت استقطابا دعمت روسيا المرشح المقرب منها ” فكتور يانوكوفيتش” الا ان “الثورة البرتقالية ” حالت دون فوزه وفاز بدلا عنه المرشح المقرب من الغرب   “فكتور يوشتشينكو”   وخلال فترة رئاسته قطعت روسيا امدادات الغاز عن البلاد مرتين في عامي 2006و 2009 كما قطعت امدادات الغاز المارة عبرها الى اروبا. وشهد عام 2008 محاولة للرئيس الامريكي جورج دبليو بوش لإدماج اوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الاطلسي قوبلت باحتجاج شديد من طرف موسكو التي هددت بعدم تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا، كما ان فرنسا والمانيا عارضا الامر ايضا.

وعندما لم تنجح محاولة الانضمام السريع للناتو حاولت اوكرانيا الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الاوربي صيف 2013 وكالعادة واجهت موسكو الامر بعقوبات اقتصادية مشددة ادت الى احتجاجات عارمة عرفت بأحداث  ” الميدان الأوربي”  اسقطت حكومة الرئيس السابق يانوكوفيتش الذي فاز بانتخابات 2010، وأدت الى فراره الى روسيا في فبراير عام 2014.

وفي مارس 2014 ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بعد ذلك فأبقت على قوات شبه عسكرية في اقليم الدونباس ذي الاغلبية الروسية والغني بالفحم الحجري شرقي اوكرانيا، كما اعلنت جمهوريتان في الدونيتسك ولوهانسك يترأسهما روس، شنت عليهما اوكرانيا حربا بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في مايو       2014  أسمتها  “حربا على الارهاب”  مصحوبة بعداء ممنهج لكل ما هو روسي، شعبا وحضارة وتاريخا فيما سمي “رهاب روسيا”.  لتتوقف بعد لقاء الرئيس بوتين بالرئيس الاوكراني بيترو بوروشينكو المنتخب حديثا على هامش الاحتفالات بالذكرى السبعين لانزال نورماندي، توج بالاتفاق على وثيقة تسمى “صيغة نورماندي”. لكن الصراع بقي بصيغة حرب بالوكالة حيث منيت القوات الاوكرانية بهزيمة ثانية في مدينة ديبالتسيفي الاستراتيجية التي اجبر الجيش الاوكراني على التخلي عنها، ثم برعاية غربية اتفق الطرفان الاوكراني والروسي على “مينسك 2 ” وهي الاتفاقية التي تشكل الى الآن اساس محاولات احلال السلام، رغم عدم تنفيذ بنودها بالكامل بعد[9]، وقد اعترفت المستشارة الالمانية السابقة انجيلا ميركل في مقابلة صحفية يوم 7 دجنبر 2022، بان اتفاقية ” مينسك ” كانت مناورة غربية لمنح اوكرانيا الوقت الكافي لتعزيز قدراتها العسكرية.

وفي 24 فبراير 2022 اعلنت روسيا عن عملية عسكرية خاصة بأوكرانيا بعد ان تقدمت بمشروعي معاهدتين في ديسمبر 2021، تحتويان على طلبات لما اشارت اليه تحت مسمى “الضمانات الامنية” مع تعهد ملزم قانونا بان اوكرانيا لن تنضم الى حلف شمال الاطلسي، وخفض عدد قوات الناتو ومعداته العسكرية المتمركزة في اروبا الشرقية، مهددة  “برد عسكري غير محدد”  إذا لم تتم تلبية هذه المطالب بالكامل. وهو ما قوبل بالرفض من طرف الولايات المتحدة الامريكية واعضاء آخرين في الناتو ملوحين بزيادة العقوبات الاقتصادية على روسيا في حالة غزوها لأوكرانيا. وقد عقدت محادثات دبلوماسية ثنائية بين الولايات المتحدة الامريكية وروسيا في يناير 2022 فشلت في نزع فتيل الازمة.


[1] الممثل السامي للاتحاد الاوربي للشؤون الخارجية والسياسة.

[2] اول حديث عن المطالبة بنظام عالمي جديد، كان في تقرير نشرته لجنة الجنوب غير الحكومية برئاسة يوليوس نيرير، في دراسة لهذه اللجنة عام 1990. ناعوم تشومسكي، النظام العالمي القديم والجديد، ص 13.

[3] المانوية نسبة الى ماني بن فانك من العقائد المثنوية التي تقوم على معتقد ان العالم مركب من أصلين قديمين هما النور والظلمة.

[4] فرانسيس فوكو ياما، نهاية التاريخ، 1992

[5] جيانغ زيمين الرئيس الصيني السابق من الفترة 1993 الى 2002.

[6] مبدا مونرو او عقيدة مونرو، نسبة الى الرئيس الامريكي جيمس مونرو الذي تحدث في 1823 عن اعتبار الامريكيتين مناطق نفوذ حيوية للولايات المتحدة الامريكية، لا يسمح لغيرها بالتدخل فيها.

[7] الحرب الهجينة، التهجين هو عندما تقوم دولة ما بوظائفها ولكن لا أحد مسؤول عنها شخصيا

[8] النظام العالمي القديم والجديد، مصدر سابق ص 308

[9] بوابة الاهرام، اسباب الحرب بين روسيا واوكرانيا…. جذور الصراع وتطوراته. 24ـ02ـ2022.

.. (يتبع)

‏مقالات ذات صلة

Back to top button