
(كش بريس/ التحرير)ـ في خطوة تعكس يقظة المؤسسة القضائية إزاء ما يثار من قضايا تمس الأمن الغذائي والشفافية الاقتصادية، أمر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط بفتح بحث قضائي حول ما تم تداوله بشأن “خلط الورق بالدقيق”، على خلفية تصريحات مثيرة أدلى بها النائب البرلماني أحمد التويزي، رئيس فريق الأصالة والمعاصرة بمجلس النواب.
التصريحات، التي جاءت في سياق مساءلة سياسية للحكومة حول جودة الدقيق المدعم، حملت اتهامات خطيرة لشركات بـ“طحن الأوراق فقط” وتقديمها على أنها “قمح مدعم يُستهلك من طرف الفقراء”، وهو ما أحدث صدمة مجتمعية وفتح الباب واسعاً أمام التساؤلات حول مصداقية منظومة الدعم وجودة المراقبة الغذائية في المغرب.
لكن التويزي سرعان ما تراجع عن تصريحاته المثيرة، موضحاً أن المقصود بـ“طحن الورق” كان مجازياً، في إشارة إلى التلاعب بالفواتير والفساد المالي والإداري داخل بعض المطاحن التي تستفيد من دعم الدولة المقدر بـ 16.8 مليار درهم. غير أن هذا التوضيح لم يُطفئ جذوة الجدل، بل زاد من تعقيد المشهد، إذ بدا أن القضية كشفت عن بنية احتكارية متغلغلة في قطاع المطاحن، تتحكم في مفاصل الدعم العمومي وتعيد إنتاج “ريع مقنّع” تحت غطاء اجتماعي.
الواقعة تمثل نقطة تماس بين الخطاب السياسي الشعبوي وبين البنية العميقة للفساد الاقتصادي. فالتصريح الأول كان يهدف إلى إثارة صدمة رمزية تفضح خللاً بنيوياً في منظومة الدعم، لكنه انزلق نحو التهويل البلاغي الذي قد يُفقد الخطاب السياسي صدقيته. أما التراجع اللاحق، فقد كشف عن ارتباك في ممارسة الرقابة البرلمانية، التي ما زالت تتأرجح بين التسييس والمحاسبة الفعلية.
القضية في جوهرها لا تتعلق فقط بما قيل أو لم يُقَل، بل بما تخفيه من صراع مصالح بين “لوبيات اقتصادية” تستنزف المال العام، ومؤسسات رقابية وقضائية تحاول استعادة زمام الثقة. إنها مرآة تعكس اختلال التوازن بين السلطة الاقتصادية غير المرئية والرقابة الديمقراطية المفترضة، وتجعل من “طحين الورق” استعارة مكثفة لواقع تذوب فيه الحدود بين الرمزي والمادي، والفساد والتبرير، والاتهام والتنصل.



