
(كش بريس/ التحرير)ـ
يستهلّ المفكر والإعلامي صبحي حديدي مقاله الأخير في القدس العربي (21 شتنبر 2025)، باستعارتين كثيفتي الدلالة: إسبارطة والعماليق. الأولى ترمز إلى المدينة–الدولة الإغريقية المعروفة بانضباطها العسكري وصرامتها القتالية، أما الثانية فتستحضر الأسطورة التوراتية التي تجعل من العماليق عدوًا أزليًا لبني إسرائيل. من خلالهما يرسم الكاتب مشهداً فاضحاً لطموح دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تريد أن تكون “إسبارطة كبرى” في مواجهة “عماليق فلسطين”، أي الفلسطينيين الذين يُراد محوهم وجوديًا.
يستحضر حديدي تصريح أرنون بار-دافيد، رئيس اتحاد نقابات العمال في إسرائيل، الذي يعترف بإنهاك المجتمع الإسرائيلي وبتدهور مكانة الدولة في العالم، داعيًا إلى السلام. لكن المفارقة أن هذا الصوت العمالي، رغم تعاطفه الظاهري، قد يكون هو نفسه ممن صوّتوا لبنيامين نتنياهو، الزعيم الذي يحوّل الخوف من السلام إلى رأسمال انتخابي. فالمجتمع الإسرائيلي، في قراءة الكاتب، يعيش “مزاج الخوف”؛ رهابٌ من أي تسوية حقيقية ورهابٌ أشد من الفلسطيني ذاته، ما يتيح استمرار حكم أكثر الحكومات عنصرية وفاشية منذ تأسيس الكيان.
يتتبع المقال مسيرة نتنياهو منذ انتخابه زعيمًا لليكود عام 1993، واصفًا إياه بأنه يدخل ويخرج من “باب دوّار” ليعود أقوى، متغذّيًا من هواجس المجتمع. هنا يستحضر حديدي نقدًا قاسياً نشرته الإيكونوميست البريطانية قبل سنوات، وصفته فيه بـ“الأخرق على حلقات”، معدّدة قراراته “السيئة التدبير والاستفزازية”: شقّ نفق أثري في القدس الشرقية المحتلة، إطلاق بناء مستوطنات جديدة، وإبقاء الانسحابات العسكرية في حدود 2% فقط. ورغم دعوة المجلة الصريحة لرحيله، يلاحظ الكاتب أن نبوءتها خابت؛ إذ بقي نتنياهو يحكم ويتفوق في كل دورة انتخابية، ليقود اليوم تحالفًا دينيًا قوميًا أشد تطرفًا وانغلاقًا.
يذهب حديدي إلى أن نتنياهو لا يكتفي باستلهام نموذج إسبارطة، بل يحاول تجاوزه إلى “سوبر إسبارطة”، دولة ذات طموح عسكري مطلق، تبرر سياساتها بغطاء تاريخي–ديني يقدّم الفلسطينيين كعماليق جدد، أعداء أبديين تجب إبادتهم. هذه الاستعارة ليست مجرد زخرفة لغوية، بل هي جوهر خطاب قومي يستثمر في الخوف الأسطوري لتبرير الحرب المستمرة والتطهير العرقي وحصار غزة وتجويع الأطفال وشن الحروب الاستباقية على لبنان وسوريا واليمن وإيران.
في موازاة هذا التصلب، تتسع دائرة الإدانة العالمية: استنكار رسمي، مقاطعات تجارية، تظاهرات حقوقية، ومساعٍ لمحاكمة قادة الحرب الإسرائيلية باعتبارهم مجرمي إبادة. غير أن هذه الضغوط، وفق حديدي، لم تكسر بعدُ “العصاب الجمعي” الذي يغذي آلة الاحتلال، بل ربما تدفعها إلى مزيد من الانعزال والادعاء بالاكتفاء الذاتي. هنا تظهر مفارقة: إسرائيل التي سعت تاريخيًا إلى الشرعية الدولية صارت مهدَّدة بفقدانها الأخلاقي، فيما ينغلق مجتمعها على نفسه بين خوف وجودي ووهم “الامتياز التوراتي”.
كما يبرز المقال مفهوماً محورياً هو “الخوف من السلام”. فبدلاً من أن يكون السلام غاية إنسانية، يُعاش كتهديد للهوية والامتيازات. إن قبول المساواة مع الفلسطيني يعني، في هذا المخيال، نهاية التفوق واعترافًا بالذنب، لذا يُفضَّل استمرار الصراع الذي يُبقي الهوية الصلبة متماسكة ويؤمّن شرعية القوة.
من خلال هذا البناء، يكشف حديدي عن ثلاثية قاتمة: أسطورة تاريخية تمنح الاحتلال مسوّغًا لاهوتيًا، سياسة واقعية تُترجم في الاستيطان والحصار والحروب، وعزلة دولية تعمّق مأزق الشرعية. لكنه، وهو يسلّط الضوء على الصلابة الإسرائيلية، يلمّح فقط إلى الأصوات المعارضة داخل المجتمع الإسرائيلي، تلك التي تكافح من أجل بدائل ديمقراطية وحقوقية، ما يترك الباب مفتوحًا أمام احتمالات أخرى غير الصراع الدائم.
تحذير من انهيار أخلاقي
ينتهي المقال إلى تحذير ضمني: إسرائيل التي تحلم بـ“إسبارطة عظمى” قد تنقلب على ذاتها، إذ لا يمكن لدولة أن تبني وجودها على الإبادة والتطهير دون أن تفقد إنسانيتها وشرعيتها. وإذا كانت الأسطورة تمنحها زخمًا مؤقتًا، فإن الواقع الدولي والقيم الإنسانية سيفتحان في النهاية “الباب الدوّار” ذاته، لكن هذه المرة في وجه مشروع الاحتلال بأسره.