
(كش بريس/التحرير)ـ تكشف المذكرة الوزارية الخاصة بانطلاق عملية الإحصاء المدرسي السنوي 2025-2026 عن تحول تدريجي في منطق تدبير المنظومة التعليمية المغربية، من المقاربة الإجرائية الضيقة إلى مقاربة مبنية على البيانات والمعطيات التربوية المهيكلة. فالإحصاء هنا لم يعد مجرد عملية تقنية لتجميع الأرقام، بل أصبح أداة استراتيجية لإعادة صياغة الرؤية حول المدرسة المغربية، وضبط أدائها ضمن أهداف “خارطة الطريق 2022-2026”، التي تراهن على التقييم المستمر وربط القرار التربوي بالمؤشر الواقعي.
من الناحية التركيبية، تتبدى المراسلة كوثيقة تنظيمية، لكنها في العمق تعبّر عن إرادة مؤسساتية لإرساء ثقافة رقمية في الحوكمة التربوية. فدعوة الوزارة إلى “تحيين معطيات منظومة مسار وتدقيقها” تكشف عن وعي متنامٍ بأهمية قاعدة البيانات كمصدر للشرعية التقنية في اتخاذ القرار، أي أن المعلومة أصبحت أداة سلطة: من يمتلكها، يمتلك القدرة على التخطيط، والقياس، والتقويم، وتوجيه السياسات القطاعية.
وفي هذا السياق، يُبرز تقسيم الإحصاء إلى مرحلتين متكاملتين – تشملان التمدرس، الموارد البشرية، التعليم الأولي، الدعم الاجتماعي، والتربية غير النظامية – نزوعًا نحو شمولية في الرؤية وتكامل في المقاربة، إذ لم تعد العملية مقتصرة على الأرقام المدرسية التقليدية، بل امتدت إلى محاور تعتبر اليوم مركزية في إصلاح التعليم: الإنصاف، الإدماج، الدعم الاجتماعي، واللغات.
هذه المقاربة الجديدة تؤشر على وعي متزايد بأن المدرسة لم تعد بنية تعليمية فقط، بل منظومة اجتماعية متعددة الأبعاد، وأن قياس أدائها لا يمكن أن يقتصر على معدلات التمدرس أو نسب النجاح، بل يجب أن يشمل مؤشرات العدالة التعليمية، تكافؤ الفرص، إدماج ذوي الإعاقة، وتتبع تمدرس أبناء المهاجرين. إنها مقاربة “تربوية-سوسيولوجية” تسعى إلى تحويل المدرسة من فضاء تلقين إلى مرصد اجتماعي يُنتج المعرفة حول ذاته ومحيطه.
لكن في المقابل، لا يمكن قراءة هذه الخطوة دون الإشارة إلى التحدي البنيوي الملازم لها: فالنظام الإحصائي، مهما بلغت دقته، يبقى مرهونًا بمدى صدقية المعطيات الميدانية وقدرة الفاعلين المحليين على إدخالها وتحيينها وفق منطق مؤسساتي منسجم. إذ كثيرًا ما تتحول هذه العمليات إلى مناسبات بيروقراطية لإرضاء المركز، بدل أن تكون آلية معرفية للتشخيص والتخطيط. ومن هنا، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في إنتاج الأرقام، بل في تحويل الأرقام إلى معرفة، والمعرفة إلى قرار تربوي فعّال.
كما يثير التركيز على منظومة مسار بوصفها المرجع الوحيد للبيانات سؤالًا فلسفيًا حول السلطة الرقمية داخل المدرسة المغربية، هل يمكن أن تتحول هذه المنظومات إلى أدوات مراقبة وتدبير فقط، أم إلى وسائط لإنتاج ذكاء تربوي جماعي يشارك فيه جميع المتدخلين من أساتذة وإداريين وأسر؟ فالتحول الرقمي في التعليم لا يكتمل إلا حين يُدمج الإنسان في قلب العملية، لا حين يُختزل في معطى رقمي ضمن قاعدة بيانات مركزية.
من جهة أخرى، يلاحظ أن المذكرة أولت اهتمامًا خاصًا بمحور التعليم الأولي، وهو مؤشر على إدراك متزايد لأهمية السنوات الأولى في بناء العدالة التربوية على المدى الطويل. غير أن إدماج “التعليم الأولي غير المهيكل” في العملية الإحصائية يطرح تحديات معقدة، نظرًا لغياب التأطير القانوني والبيانات الدقيقة حول هذه الفضاءات. ومع ذلك، فإن مجرد إدراجها ضمن الإحصاء الرسمي يمثل خطوة نحو الاعتراف المؤسسي بواقعٍ ظلّ هامشيًا لعقود.
وتسعى وزارة التربية الوطنية من خلال هذا الإحصاء السنوي إلى بناء “ذاكرة رقمية” للمدرسة المغربية، قادرة على تتبع التغيرات بدقة وربطها بالأهداف الوطنية للإصلاح. لكن هذه الطموحات تبقى رهينة بقدرة الجهاز التربوي على تجاوز ثقافة الامتثال الإداري نحو ثقافة التقييم الذاتي والمساءلة الميدانية. فالإحصاء، في جوهره، ليس غاية في ذاته، بل مرآة تُظهر ما يخفيه الواقع من تفاوتات واختلالات، والرهان الحقيقي هو أن تتحول هذه المرآة إلى أداة نقدية للتصحيح والإبداع في السياسات التعليمية.