
(كش بريس/التحرير)ـ يضع التقرير الأممي لعام 2025 حول مؤشر الفقر متعدد الأبعاد المغرب أمام مرآة دقيقة تكشف ليس فقط نسب الحرمان، بل أيضًا عمق الاختلال البنيوي في توزيع الثروة والفرص. فحين يعيش 6,4٪ من المغاربة في فقر متعدد الأبعاد، ويُصنَّف أكثر من 10٪ ضمن الفئة المعرّضة للفقر، فذلك يعني أن ما يقارب ثلث السكان يعيشون تحت سقف هش من الأمن الاجتماعي، قابل للانهيار أمام أي أزمة اقتصادية أو بيئية جديدة.
أزمة الفقر كأزمة معرفة وسياسة
اللافت في التقرير ليس فقط المعطيات الرقمية، بل طبيعة المنهج الذي اعتمد عليه. فالفقر هنا لم يعد مجرد مسألة دخل، بل أصبح سؤالًا مركبًا يشمل التعليم، والصحة، والمستوى المعيشي. غير أن المعضلة العميقة تكمن في أن المغرب ما يزال أسير مقاربة كمية في مواجهة قضية نوعية: تُقاس نسب الفقر بينما لا تُقاس جودة السياسات الاجتماعية نفسها. فالمؤشرات الأممية تقول بوضوح إن التفاوت في التعليم يفسر نصف أسباب الفقر في البلاد، مما يجعل العجز التربوي ليس فقط مسألة بيداغوجية، بل مؤشرًا على خلل حضاري في بناء الإنسان كمورد تنموي.
التعليم كمحرّك للفقر لا للتحرّر
حين يسجل التقرير أن التعليم يساهم بنسبة 46,8٪ في إنتاج الفقر، فذلك يعني أن المدرسة المغربية فقدت وظيفتها التحررية، وتحولت من أداة للترقي الاجتماعي إلى آلية لإعادة إنتاج الهشاشة. فحرمان ملايين الأطفال من تكافؤ الفرص التعليمية يعني في الواقع حرمان المجتمع من رأس ماله الرمزي والمعرفي. إن الفقر، في جوهره، لم يعد نقصًا في الموارد، بل عجزًا في العدالة المعرفية.
تباطؤ التقدم: حدود الإصلاح الاجتماعي بعد 2018
صحيح أن المغرب حقق انخفاضًا ملموسًا في معدلات الفقر بين 2011 و2018، غير أن التقرير يشير إلى تباطؤ واضح في وتيرة التحسن بعد تلك الفترة. هذا التوقف ليس عرضًا ظرفيًا بسبب الجائحة أو التضخم، بل علامة على إرهاق نموذج التنمية الاجتماعي، الذي نجح في تعويض الفقر المادي بالدعم المالي، لكنه فشل في القضاء على الفقر البنيوي المرتبط بالمجالات الريفية، والتعليم، والبنية التحتية. وهنا يظهر السؤال الجوهري: هل تكفي برامج المساعدات لتقليص الفقر، أم أن المطلوب هو إعادة بناء السياسة العمومية حول مفهوم التمكين الاجتماعي بدل الإحسان الاجتماعي؟
تحالف الفقر والمناخ: نحو هشاشة مزدوجة
من أخطر ما في التقرير هو الربط بين الفقر والمناخ. إذ يؤكد أن الفئات الفقيرة في المغرب، كما في باقي بلدان الجنوب، تواجه خطرًا بيئيًا متصاعدًا، يجعل من الفقر والمناخ جبهة واحدة من الهشاشة الإنسانية. فحين يُحرم الفلاح من المياه أو تتراجع الإنتاجية بسبب الجفاف، لا يفقد دخله فقط، بل يفقد قدرته على الاستمرار في الحياة الكريمة. إنها دورة مفرغة حيث يلد الفقر هشاشة، وتلد الهشاشة فقرًا أعمق.
بين الحوكمة الرقمية والفقر الحقيقي
رغم وفرة البيانات والمؤشرات، ما يزال التحدي الأكبر هو تحويل المعرفة الإحصائية إلى إرادة سياسية. فالمشكل ليس في نقص الأرقام، بل في ضعف الترجمة العملية لهذه الأرقام إلى قرارات مهيكلة تعيد الاعتبار للإنسان في قلب التنمية. فحين يعلن التقرير أن 83٪ من فقراء العالم يعيشون في القرى، تصبح معركة الفقر في المغرب مرهونة بإرادة إعادة الاعتبار للعالم القروي كفضاء للحياة، لا كمجرد منطقة “مستهدفة” بالمساعدات.
قراءة في المعنى الأعمق
الفقر في المغرب، كما يصوره التقرير، ليس فقط معضلة اقتصادية، بل إشكال ثقافي وأخلاقي يرتبط بتوزيع القيمة والكرامة. إنه فقر في العدالة، وفقر في الأفق السياسي القادر على تجاوز منطق الإحصاء نحو فلسفة تنموية تؤمن بإنسانية الإنسان قبل إنتاجه.
تقرير الفقر متعدد الأبعاد لا يجب أن يُقرأ كوثيقة رقمية، بل كمرآة للضمير الوطني. فحين تعلن الأرقام عن حرمان الملايين، فهي لا تكشف فقط واقعًا إحصائيًا، بل تدين فشل نموذج تنموي لم يعد يُقنع، ولا يُلهم، ولا يُنصف. المطلوب اليوم ليس تصحيح المؤشرات، بل إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس العدالة المعرفية، والإنصاف المجالي، والكرامة الإنسانية.