‏آخر المستجدات‏تكنولوجيا و ميديا

المغاربة بين هوس التواصل وتحولات الصمت الرقمي.. الـANRT تقرأ مؤشرات جديدة

(كش بريس/التحرير)ـ لم تعد أرقام الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات مجرّد مؤشرات تقنية لتتبع أداء الشبكات، بل صارت مرآة دقيقة لتحوّلات عميقة في أنماط التواصل داخل المجتمع المغربي. فأن يتجاوز مجموع مكالمات المغاربة 10 مليارات و700 مليون دقيقة في ثلاثة أشهر فقط، فذلك لا يعكس مجرد تزايدٍ في استعمال الهاتف، بل يشي بواقعٍ اجتماعي تزداد فيه الحاجة إلى التعبير، وسط عالمٍ يتّسع فيه الصمت خلف الشاشات.

ورغم الطفرة الرقمية التي جعلت من الإنترنت مجالاً رئيساً للتفاعل، تكشف الأرقام أن الصوت ما يزال يحتفظ بجاذبيته القديمة. فالمتوسط الشهري لمكالمات المغاربة في نظام “الدفع اللاحق” بلغ 274 دقيقة، مقابل 28 دقيقة في نظام “الدفع المسبق”؛ وهو فارق يعبّر عن تمايزٍ اجتماعي واقتصادي في أنماط التواصل، حيث تتحول المكالمة الهاتفية من وسيلةٍ وظيفية إلى مؤشرٍ على المكانة والقدرة الشرائية.

غير أن المفارقة الأبرز تكمن في التراجع الحاد للرسائل القصيرة بنسبة 17,9 في المائة، وهو تراجع لا يعني فقط تراجع وسيلة تقنية، بل موت شكلٍ من الكتابة اليومية التي كانت تؤطر الوجدان الفردي في بدايات الثورة الرقمية. فـ”الرسالة القصيرة” التي شكّلت ذات يوم مساحة للعاطفة والبوح والتواصل الإنساني، تلاشت اليوم أمام إغراءات المحادثة الفورية والرموز التعبيرية التي أفرغت الكلمة من حرارتها الأصلية.

في المقابل، تعكس الأرقام الخاصة بسوق الاتصالات منافسةً محتدمة بين الفاعلين الثلاثة الرئيسيين. تتصدر “ميدي تيليكوم” بحصة 35,45%، تليها “وانا كوربورايت” بنسبة 32,59%، ثم “اتصالات المغرب” بـ31,97%. وهي أرقام تُظهر دينامية السوق، لكنها تثير أيضاً سؤال الجودة والإنصاف في التغطية والخدمات، لا سيما في ضوء تلقي الوكالة 337 شكاية خلال ثلاثة أشهر، 62% منها تتعلق بجودة الخدمات ذاتها التي تُسوّق بوصفها “رقمية فائقة”.

أما الهاتف الثابت، الذي ظلّ رمزاً للاستقرار والذاكرة العائلية، فما يزال يقاوم الانقراض، بـ3,1 ملايين اشتراك و435 مليون دقيقة محادثة. حضورٌ هادئ وسط ضجيج المحمول، يذكّر بأن التقدم التقني لا يلغي الحنين إلى البساطة واليقين في التواصل.

لكن الدينامية الكبرى تظل في فضاء الإنترنت، حيث تجاوز عدد الاشتراكات 41 مليوناً، منها أكثر من 38 مليوناً في “الإنترنت المتنقل”. هذا الرقم يعبّر عن دخول المغرب مرحلة “التواصل الكلي”، حيث يتقاطع العمل والترفيه والدراسة في شاشة واحدة، وحيث تتشكّل هوية جديدة للمغربي الرقمي: متصل دائماً، لكنه أكثر وحدةً من أي وقت مضى.

وفي ظل هذا الزخم، تبقى معادلة “الجودة والثقة” التحدي الأكبر. فارتفاع الشكايات لا يدل فقط على عطبٍ تقني، بل على هشاشة العلاقة بين المواطن والمؤسسة، بين المستخدم والوسيط، في فضاء رقمي يُفترض أنه فضاء حرية وكفاءة.

إن أرقام الـANRT، في عمقها، ليست مجرد إحصاءات في تقرير رسمي، بل ملامح سوسيولوجيا جديدة للتواصل في المغرب؛ سوسيولوجيا تُعيد تعريف معنى الاتصال، وحدود الصمت، ومقام الإنسان في زمن تتحكم فيه الدقائق والميغابايتات في شكل علاقاته وحياته.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button