
(كش بريس/التحرير)ـ تُظهر معطيات تقرير “المرأة المغربية في أرقام” الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط أن المجتمع المغربي يعيش، منذ مطلع الألفية الثالثة، مرحلة انتقالية عميقة تمسّ جوهر النسق الاجتماعي، ولا سيما في ما يتعلق بمؤسسة الأسرة، وأنماط الزواج، والطلاق، وتوزيع الأدوار داخل البنية العائلية.
ففي الوقت الذي تتراجع فيه مؤشرات الزواج المبكر بشكل واضح، تسجَّل في المقابل ارتفاعات موازية في نسب العزوبة والطلاق، مع بروز أدوار جديدة للمرأة داخل الأسرة والمجتمع. ويبدو أن هذه التحولات لا تنفصل عن المسار الأوسع للتحول الثقافي والاقتصادي والسياسي الذي عرفته البلاد خلال العقدين الأخيرين، حيث انخرطت النساء بشكل متزايد في التعليم وسوق العمل والمجال العام، ما أفضى إلى إعادة تشكيل صورة المرأة والأسرة معًا.
نهاية النموذج التقليدي للأسرة
يبرز من خلال الأرقام أن المغرب يشهد تراجعًا واضحًا في نموذج الأسرة التقليدية القائمة على الزواج المبكر والتكاثر الواسع والتبعية الاقتصادية للنساء. فقد انخفضت نسبة زواج القاصرات إلى أقل من النصف خلال عشرين عامًا، وهو تحول يعكس نجاح نسبي للسياسات الحقوقية والتربوية، لكنه في الوقت نفسه يشير إلى تحول في الوعي الاجتماعي تجاه مفاهيم النضج والمسؤولية الأسرية.
كما أن ارتفاع نسبة النساء اللواتي يعشن بمفردهن (من 16.3% إلى 28.9%) يعكس تحوّلًا ثقافيًا أعمق: صعود الفردانية النسائية، حيث لم تعد الأسرة بالضرورة شرطًا للهوية الاجتماعية أو الأمان الاقتصادي.
الطلاق: من وصمة إلى ممارسة اجتماعية عادية
الارتفاع الكبير في نسب الطلاق، خاصة الطلاق الاتفاقي (89.3%)، يكشف عن تحوّل جذري في منظومة القيم الزوجية. فالعلاقة الزوجية لم تعد تُدار بمنطق التضحية والاستمرار القسري، بل بمنطق التفاهم والاختيار. ويعني هذا أن المجتمع بدأ يتقبل فكرة الانفصال كخيار اجتماعي مشروع، لا كفشل أو عار.
وفي العمق، يشير هذا إلى تراجع السلطة الأبوية التقليدية مقابل صعود قيم التفاوض والمساواة داخل الحياة الأسرية.
المرأة المعيلة: من الهامش إلى مركز الإعالة
من أبرز مظاهر التحول، الارتفاع المتواصل في عدد الأسر التي ترأسها نساء (19.2%)، وهي ظاهرة أكثر وضوحًا في المدن. ويكتسب هذا المؤشر دلالة مضاعفة حين نعلم أن الأرامل يشكلن أكثر من نصف هذه الفئة (54.7%)، بينما تتزايد نسب المطلقات والعازبات، ما يعني أن المرأة المغربية باتت تتحمل عبء الإعالة والمسؤولية الأسرية بشكل متنامٍ.
هذا الصعود الاقتصادي والاجتماعي للنساء يوازيه تحول في الوعي الذاتي؛ فاستقلال المرأة لم يعد مجرد شعار حقوقي، بل أصبح واقعًا يوميًا له انعكاساته في خيارات العيش، والتمثلات الثقافية، وحتى في توازنات السلطة داخل الأسرة.
ازدواجية المدينة والقرية
يُظهر التقرير بوضوح أن التحول الاجتماعي غير متكافئ مجاليًا. ففي المدن، تتقدم الفردانية والاستقلال النسائي بوتيرة أسرع، بينما تحافظ القرى على بعض القيم التقليدية، وإن كانت تعرف هي الأخرى ديناميات جديدة في معدلات الطلاق والعزوبة.
هذا التفاوت يعبّر عن مسارين متوازيين للتحديث الاجتماعي: أحدهما حضري قائم على التمكين والتعليم والعمل، والآخر قروي يسير ببطء، لكنه في طريقه لتفكيك البنى التقليدية أيضًا.
الدلالة الثقافية العامة: من الجماعة إلى الذات
تدل هذه التحولات مجتمعة على أن المغرب يشهد انتقالًا في المرجعية القيمية: من مجتمع جماعاتي تحكمه القيم الجماعية والعلاقات الأبوية، إلى مجتمع أكثر انفتاحًا على قيم الفرد والاختيار والحرية الشخصية.
لكن هذا الانتقال لا يخلو من توترات صامتة بين جيلين: جيل لا يزال يرى في الزواج والإنجاب أساس الاستقرار، وجيل جديد يعيد تعريف النجاح والسعادة خارج مؤسسة الزواج.
إن الأرقام التي قدمتها المندوبية ليست مجرد معطيات إحصائية، بل هي مؤشرات ثقافية عميقة على انتقال المجتمع المغربي إلى مرحلة جديدة من التوازن بين التقليد والحداثة.
فالمرأة المغربية اليوم ليست فقط فاعلة اقتصادية أو اجتماعية، بل أصبحت مرجعية في إعادة تعريف الأنوثة والعائلة والمواطنة. ومع ذلك، فإن هذا المسار يظل مفتوحًا على تحديات عديدة: هشاشة البنية الاجتماعية، ضعف الدعم المؤسسي للأسر أحادية الإعالة، واستمرار الفوارق بين المجالات والطبقات.