
بعد ستة عقود مضت على جريمة اغتيال القائد السياسي الوطني والقومي والأممي المهدي بن بركة مازالت المطالبة بالكشف عن مصير جثثه متواصلة : هل هي موجودة كرفات في مكان ما , أم تم التخلص منها كليا بتذويبها في الأسيد ,حسب شهادات بعض العملاء وتحقيقات عدد من الصحافيين الاستقصائيين ؟ .و في ظل الغموض وتضارب الروايات والاستقصاءات حول هذه الحلقة الانسانية الحساسة من مسلسل الكشف عن الحقيقة كاملة , تبقى الحقيقة الجلية والثابتة هي ان فعل الاغتيال جريمة جماعية تواطأت في التخطيط لها المخابرات الأمريكية والفرنسية والموساد الاسرائيلي , وجرى تنفيذها بإشراف من الجنرال الدموي أو فقير , وبأيادي أخرى مغربية وأجنبية قذرة .
لقد كان المهدي بن بركة مستهدفا من طرف قوى الاستعمار الجديد وكيانه الوظيفي في فلسطين المحتلة بفعل ما شكلته رؤيته التحررية والتقدمية لمستقبل شعوب ” العالم الثالث ” الرازحة تحت الاستعمار العنصري والاستيطاني وتلك الخاضعة لعلاقة التبعية للاستعمار الجديد واستراتيجياته الهيمنية فقد اطرت هذه الرؤية الأممية التحررية التحركات السياسية ,الإشعاعية والتعبوية للزعيم المهدي بن بركة وطنيا وعالميا , وساهمت , بالتالي , في التقارب والتضامن الفعلي بين حركات التحرر في إفريقيا وآسيا , ويمكن الإشارة ,هنا بإيجاز شديد للأسس الرئيسة التالية التي تأسست عليها فكريا وسياسيا :
الربط الجدلي الوثيق إيديولوجيا وسياسيا وميدانيا بين الوطني والقومي و الأممي ضمن استراتيجية متكاملة للنضال التحرري ضد الاستعمار الجديد مختلف أشكاله وتجلياته , المباشرة منها وغير المباشرة .
تشريح وتفكيك عناصر المشروع الصهيوني في إفريقيا إذ يعد بن بركة أول زعيم عربي نبه إلى مخاطر الدور الإسرائيلي في بلدان إفريقيا , ففي ” ندوة فلسطين العالمية ” التي انعقدت في القاهرة في ابريل 1964, أي سبعة أشهر قبل اختطافه واغتياله ,ألقى عرضا مفصلا وموثقا بعنوان ” أدوار إسرائيل في إفريقيا ” أبرز فيه مخاطر الرهان الإسرائيلي على التوغل في دول إفريقيا من باب الإغراء ” بالتنمية “, مستشهدا في هذا السياق بقول ا بن غوريون “ان المستقبل الاقتصادي لإسرائيل ووضعها الدولي يتوقفا ن على الروابط التي تجتهد لإقامتها في إفريقيا وآسيا” ( نص المحاضرة في العدد 33 من مجلة الملتقى ) , وقد فصل بن بركة في بسط مختلف المشاريع الصهيونية في عدد من البلدان الإفريقية خاصة في القطاع الزراعي وفي البنيات التحتية ,منبها إلى أنها “خدعة “, وداعيا إلى واجب فضح الخطاب الصهيوني الزائف حول ” التنمية”,وخلفياته الاستعمارية والعنصرية .
_ اعتبار القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من قضايا حركات التحرير العالمية ” فهي لم تعد قضية عرب ويهود , بل حركة عربية ثورية ضد قوى الاستعمار بلا تعصب عنصري ” , وعلى أساس هذا التصور للبعد الأممي و الانساني لقضية فلسطين ظل بن بركة شديد الاقتناع ” أنه يمكننا أن نعتمد على القوى التقدمية والثورية في إفريقيا لتدرك حقيقة هذه القضية ( قضية فلسطين ), ولتقف بجانب العرب في نضالهم العادل ” (في نفس المحاضرة المشار إليها) .
_ إزالة الخلط بين اليهودية كديانة , وبين الصهيونية كايدولوجيا عنصرية وعرقية متحجرة ومنغلقة , فما حدث لشعب فلسطين , يوضح بن بركة , شبيه بما حدث لشعوب افريقيا من احتلال وتهجير للسكان الأصليين وسرقة للأرض والخيرات . وهكذا مد بن بركة جسورا قوية بين الكفاح الفلسطيني وبين الحركات المتضامنة والداعمة للشعبين الجنوب الافريقي والفيتنامي في نضالهما ضد العنصرية والاستعمار العسكري المباشر .
على خلفية هذه الرؤية للعلاقة بين النضال التحرري وطنيا وقوميا و أمميا, بذل بن بركة جهدا خارقا في ترجمتها إلى فعل أممي يوحد كفاح شعوب إفريقيا وآسيا ضد الاستعمار الجديد وعملائه المحليين وهو ما ألب عليه القوى الامبريالية الكبرى وكيانها الوظيفي في فلسطين المحتلة ,فتواطأت المخابرات الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية على اختطافه ثم اغتياله بينما كان وقتها منكبا بكل طاقته المعهودة والاسثتانائية على التحضير ” لمؤتمر شعوب القارات الثلاث” بكوبا ..
لقد وصف المناضل والمفكر محمد عابد الجابري رفيق دربه بن بركة بأنه “أمة وحده ” لذلك ” كان لابد من تواطؤ جميع ” أمم الشر ” ضده حتى يصبح في الإمكان القبض عليه “. وفي إشارة منه لشهادات عملاء و منفذي جريمة الاغتيال اعتبر الجابري أننا “سنحط من قيمة الشهيد إذا حصرنا اختطافه في حدود حركة الكراكيز وتر نحاتها وأغفلنا الما سكين بالخيوط التي تحرك هذه الكراكيز .كانت اللعبة أكبر كثيرا من عملاء الاستعمار الجديد , منفذي الجريمة ” ( مواقف , العدد 7 ص 127)
نعم, اللعبة اكبر من ذلك , فالجريمة ” جريمة دول ” تخطيطا وتنفيذا لها , وهي المطالبة اليوم ,وبعد مرور ستة عقود , الكشف عن أهم سر من أسرار هذه الجريمة , أي مصير جثة الشهيد أو ما تبقى منها , فبدون الكشف عن ذلك ,ستظل روح المهدي الحرة الأبية تطارد بالخزي والعار “المتواطئين الكبار ” والمجرمين المنفذين , وستبقى ذكراه جرحا غائرا في الذاكرة الوطنية والإنسانية , وثقبا في خطاب ومسار الانصاف والمصالحة , إذ لا مصالحة بدون عدالة . وعليه فإنه لا بديل عن مزيد من الإصرار الوطني الشامل على كشف مصير جثة عريس الشهداء , وعلى السلطات الأمنية والقضائية الوطنية القيام بمبادرات تفتح تحقيقا جديا مع ” دول الجريمة ” ومع منفذيها العملاء.
وعلى أمل التحرك في اتجاه بلوغ الحقيقة الكاملة ,سيظل المهدي بن بركة عصيا عن النسيان , حاضرا في الوجدان , وملهما للأوفياء في كل آن ومكان..





