ـ مثقف عضوي عن جدارة ـ
لم يغيب الموت المفكر محمد عابد الجابري، فقد رحل ولم يمت، مثله مثل كل الكبار الذين بصموا تاريخ الفكر والعلوم والفنون ..الخ ، فما خلفه الجابري من ذخيرة فكرية متنوعة ونوعية، ومن مواقف مبدئية وواقعية من قضايا مجتمعنا و عالمنا ، جعله دائم الحضور في الحقلين الثقافي والسياسي، محتلا مكانة المرجع الذي لا غنى عنه في اي مقاربة للتراث العربي الإسلامي، وفي أي قضية ثقافية أو منعطف سياسي…
في دراسة تحت عنوان “المشروع الرباعي” كتب حسن حنفي بمناسبة الذكرى الأربعينية لفقيدنا الجابري : ” العزاء يقوم على ذكر المآثر, والدراسة تقوم على الحوار والمناقشة (…) والمهم هو تطوير الجابري وليس تقليده، إعادة قراءته، وليس تكراره، فتح المجال لأجيال ” “جابرية” قادمة لمناقشة المؤسس …” . وفي نفس السياق والمناسبة، كتب طيب تيزيني ” إن الوفاء للمفكر الراحل الجابري يعني ضمن ما يعينه متابعة ما أشعله من مواقف وقضايا “..
بعد أربعة عشر سنة على رحيله، يمكن القول بلا مبالغة أن “الجابرية” أمست مرجعا لا غنى عنه ، يغتني بجيل جديد من الباحثين ، وأرضية معرفية صلبة لكل تفكير نقدي وعقلاني واجتهادي في” استراتيجيا إعادة بناء الذات العربيةمن داخل التراث العربي الإسلامي” وذلك من طريق تجديد العلاقة معه “والانتظام فيه” بأفق التوظيف الخلاق له في مواجهة حاجيات العصر ومتطلباته التاريخية المصيرية , وربح رهانات العقلانية والحداثة والديمقراطية .. كما فصلت في ذلك عشرات مؤلفاته المائزة.
إنه “المشروع الفكري الجابري” الذي تفرغ له فقيدنا ما يزيد عن ثلاثة عقود دون أن “يستقيل” خلالها من متابعة وتحليل قضايا راهن وطنه ومجتمعه وأمته، أو يبتعد عن مساره السياسي النضالي الطويل، ,فقد ظل دائم الحضور فيها , رأيا وتحليلا ومواقف..، ، هكذا فمن داخل” محراب” البحث والتنقيب والتأليف.. كان الراحل الجابري مرشدا للممارسة السياسية العقلانية والواقعية، مستحقا بذلك, وعن جدارة صفة المثقف العضوي, فما كانت إنتاجاته الفكرية والمعرفيةبالنسبة إليه، مدعاة للاستعلاء أو الانعزال عن قضايا الشأن العام , بل ظل نموذجا لحضور الفكر والمفكرين في جميع مجالات وانشغالات المجتمع..
فسلام عليك أيها الغائب جسدا , والحاضر فكرا وروحا..