
المغتربون صنفان: صنف رحلوا عن أوطانهم فهاجروا بعيدا أو نفوا في أقصى الأرض، وصنف رحلت عنهم أوطانهم بعد أن تم تهجيرهم داخل الوطن. كيف يتم تهجير الناس داخل أوطانهم؟ التهجير صنفان: إما أن يرحل الناس عن الوطن، أو يرحل عنهم الوطن. كلاهما نفى وإقصاء واستبداد ومحو للمكان وإعدام للروح. وحتى نفهم كيف يتم تهجير الناس عن أوطانهم لابد أن نفهم مامعنى الوطن
ما معنى الوطن؟ هل هو مجرد المساحة الجغرافية التي أحيا فيها فنقول هذا هنا وهذا هنالك وهذا فوق وهذا تحت؟ طبعا لا بل الوطن هو هوية وروح الإنسان عندما تفرض وجودها في المكان،إن البيوت النى نحيا فيها ليست مجرد جدران من أسمنت وحديد بل هى الذكريات والملامح والحنين والخواطر والدروب والمسالك والحوارى والسكك والبيوت والمساجد والمعابد والبراح الممتد أمام البصر يغذى الروح ويلهم الخيال.
ومن هنا كان الحق الإنسانى في المكان من الحقوق الأصيلة في حياة البشر، فلا روح بلا مكان، ولا وطن بلا بيوت ننقش فيها الذكريات، وشبابيك نطل منها على الأفق، ومفاتيح نسمع صريرها في الروح قبل الواقع. وأشجار وأزهار ودهاليز كلها تصنع البهجة والأفراح والأحزان. الوطن يتكون من مجموع هذه الأماكن التي زرعت في الروح ونبتت في الخيال ونامت في القلب واللحم والعظم والأعصاب.
فلماذا تهدم الدولة ليل نهار هذه الأماكن الأثرية التي عاشت في الروح وهذه الشوارع التاريخية الرصينة التي نبتت في الخيال واكتظت بالذكريات؟
أظن أن هذا المحو المنهجى المنظم لهدم مقابر الأعلام والرموز الدينية والفكرية والتخلص من البنايات المعمارية الإسلامية أو تغيير ملامحها وأماكنها أو تشويهها أو حتى نقلها عن أماكنها لأماكن أخرى تحت أى دعوى سوف يمحو رويدا رويدا الذاكرة المكانية والروحية فى العيون والصدور والمشاعر مما يمحو معه هوية هذا الوطن،هوية الذكريات المتوارثة العميقة والاعتياد الإنسانى اليومى على رؤية الأماكن والشوارع والأزقة والحوارى والمداخل والمخارج التى تجسد فى النهاية الذاكرة الروحية والفكرية والشعورية الجمعية للوطن و لمن يعيشون فى المكان مما يجعلنا نفقد رويدا رويدا ألفة هذا الوطن.إن عملّيات الترميم لأماكن الوطن أو تجميلها تحت أى مسمى هو فى الحقيقة سلب لذاكرته التاريخة العميقة وتشويه لهويته المكانية العريقة كما تشوه معظم عمليات التّجميل براءة وجوه النّساء
إن المكان ياسادة ليس مجرد أبعد جغرافية هندسية مادية مجردة محايدة بل هو روح وعقل وذكريات وخوف وحب وموت وماض وتذكر وأشواق ولهفات وحنين وشجن.إنه مقصورة الأرواح الكثيفة الشجن.وما يحدث الآن أظنه ليس بعيدا عن القصد السياسيى التسلطى الذى يحاول محو ألفة المكان ومايختزنه من عبق الزمان مما يجعل الأجيال الجديدة لا علاقة لها على الإطلاق بماضى هذا الوطن
الإنسان ياسادة هو المخلوق الوحيد الذى يبصر فيرى ما لا تراه جميع الكائنات عندما تبصر، الإنسان له روح وذاكرة بصرية وخيال بصرى وذكريات بصرية وماضى وحاضر بصرى. وهنا المكان يأخذ شكل روح الإنسان وروح التاريخ والزمان، ومن يهدم المكان كمن يهدم روح الإنسان ويعدم روح التاريخ. كلنا يمشى الآن في شوارع القاهرة من أقصى الدلتا وحتى أسوان فلا يجد القاهرة التي كنا نعرفها بل هذه بلدة أخرى غريبة عنا لا هي منا ولا نحن منها. كل شيء قد تهدم ولا أقول تغير ولا تطور فشتان شتان بين التطوير والتغيير والتهديم والتكسير. الإنسان هو الذى يشيع الحياة في الأماكن والشوارع والحوارى والمآذن والمعابد والنقوش والآثار، هنا يكون للتاريخ والروح والخيال والهوية معنى كل المعنى، الإنسان هو الذى يركب المنظور المعمارى في روحه وخياله فتكون بقعة صغيرة في الأرض أغلى من الجسد فيضحى الإنسان من أجلها بحياته كلها، قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا. فلماذا نرمى بالسكان والبشر والحياة خارج أسوار القاهرة ليعيشوا في الصحارى الفارغة المجردة من الحياة والتاريخ والرائحة والذكريات والماضي؟.
إن الاستبداد والديكتاتورية التي تمارسها السلطات الآن على المكان تحرم الإنسان المصري من حقه في المكان وحقه في الذكريات والتاريخ والارتباط والانسجام.الإنسان ليس مجرد جثة هامدة مرمية في خواء المكان وفراغ الزمان بل هو حضور إنسانى بهيج ملىء بالروح والرغبة والشوق والذكرى والخيال المكانى. الإنسان ليس مجرد وجود مادى بل هو حضور روحى تاريخى عميق.
انظر معى لهؤلاء الذين تم تهجيرهم قسرا عن بيوتهم وديارهم وملاعب طفولتهم في أي مكان في الدنيا تراهم يحملون في أعناقهم مفاتيح بيوتهم المغتصبة أملا في العودة إليها، وهى إشارة رمزية على الارتباط الروحى والجسدى العميق ببيوتهم التي هجروا عنها قسرا وعنفا واستبدادا. هذه المفاتيح المعلقة في صدورهم يشمون يها رائحة المكان عبر صوت ديك مُسنّ يؤذن في البكور، أو زقزقة عصفور زغيب، أوتسبيحة كروان متصوف. يمشون في خيالاتهم عبر الحارات التي تربوا فيها كما لو كانوا يمشون في أحلامهم يحدقون في مياه شفافة عميقة. هنا كان عم محمود بائع اللبن، وهنا كان عمو سيد بائع الدجاج،وهنا كانت الحاجة عائشة بائعة الخضار وهنا كان مقهى الروح والحنين والذكريات. هنا كانت الغيطان التى تترامى في الروح كأنها تسافر في الخيال. هنا جدران البيوت التى نتسمّع فيها نبضات الهواء الطليق مشبعة بأصداء الأطفال والمخلوقات وهى تطن وتلعب فى الطين والتراب، نتشمّم نور الفجر إذ تتوالد عرائس بهجته الأولى، يتسرسب إلى الروح هواء لطيف ورقيق ورطب؛ فتكتسى القلوب والأرواح برذاذ الطهر والسكينة
المكان ياسادة بالله عليكم ليس مجرد جدران مجردة ،أومساحات جغرافية محايدة ذات أبعاد صماء وأطوال بكماء وأعماق بهماء بل هو سكن للروح ومثوى للذكريات إذ تتوالى عليه الخواطر والهواجس، من منا لم يطوحه الحنين صوب المكان الذى ولد فيه،الحارات البسيطة الدافئة التي خطا فيها أولى خطواته؟ رائحة البيوت وهندسة شكلها وهيئات اسقرارها في المكان، المكان يسكن فينا أعمق مما نسكن فيه،المكان بنا ولنا وفينا ومنا.
بهذه المثابة يمثل المكان أحد الأساسات الوجودية التى صاحبت وجود الانسان فوق الأرض فحس المكان لدى الانسان حس عميق وأصيل فى وجدانه وعقله ومجموع كيانه كله. بل لعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن ما ينسحب على الانسان بخصوص أساسية المكان لديه ينسحب على جميع المخلوقات والموجودات والأشياء فى هذا الكون العريض ، والانسان بصفته قادراً على الوعى بذاته والوجود المحيط به يعد المكان لديه إحدى الأساسيات المعرفية والشعورية والوجودية والتخييلية المكونة لوعيه ووجوده وهويته وكينونته، بل يمكن لي أن أقول بأننا موجودات مكانية فى المقام الأول والأخير،نولد في مكان ونكبر في المكان ونطمح ونأمل ونروح ونغدو في المكان ثم يضمنا مكان التراب في سفرنا الأخير.
وبهذه المثابة لنا أن نقول بأن الهوية الإنسانية ذاتها صورة من صور المكان،والنسق القيمى فى أى مكان هو صورة رمزية زمكانية تحدد كنهه ووظيفته، فاليمين واليسار والأعلى والأدنى هى صور مكانية أو قل هى المكان وقد عاش فيها الزمان وعشش التاريخ، فلا نستطيع أن نعيش فى أي مرحلة من مراحل أعمارنا،أو نتعين فى أى وجهة من جهات حركاتنا وتوجهات قيمنا، إلا ونحن غارقين فى سياق مكاني زمانى حتى ونحن موتى يضمنا أيضاً مكان له مذاقه السرى الخاص. فلماذا يتم هدم المقابر الأثرية بحجة أن الحى أبقى من الميت.وكيف يحيا الحاضر الحى دون ماض حى؟
ياسادة هؤلاء ليسوا موتى بل هم أحياء في أرواحنا يرزقون بالذكريات والهوية والتاريخ، وهذا يؤكد أن تصورات عقولنا ومطارح أفكارنا وهواجس أحلامنا،وأشكال أحلامنا دائماً متلبسة بالمكان وخيالات المكان.
بالله عليكم أنتم تهدمون الانتماء والهوية. لأن المكان ليس مجرد مساحات وأبعاد هندسية مادية فيزيقية يحكمها الحجم والمقاس والمساحة، بل المكان هنا يتشكل عبر الأفكار والأحلام وشوارد الأماني والذكريات وخفى الهواجس ومكنون الخيالات. وعندما تهدمون المكان أنتم تهدمون روح الوطن حتى يخرج جيل لا يعرف مامعنى هذا القبر الأثرى، ولامعنى هذا الشارع التاريخى، ولامعنى هذا المسجد الذى يملؤ الروح بالتضحية والفداء والذكرى. جيل أعمى البصر منطفئ البصيرة ممحو الخيال ميت الانتماء. جيل لا علاقة له بالمكان ولا بالتاريخ ولا بالوطن.
هناك ياسادة ذاكرة روحية هي أخطر وأجل ما في الإنسان،ليس للحيوان تراث ولا تاريخ وبالتالي ليس لديه أي سعى صوب الحنين للماضى ولا شوق ناحية السمو للكمال،وإن كان بعض الحيوانات يموت فداء مكانه الذى يحيا فيه. جربوا أن تنقلوا ياسادة بعض الدجاجات من مكانها الذى تربت فيه وألفته إلى مكان غريب عنها وغريبة عنه ستجدون تخبطا بين الدجاج وعمى مؤقتا وارتجاجا وعشوائية حتى يأنسوا للمكان مرة أخرى فيأخذ رائحتهم ويأخذون رائحته فينتظمون ويستردون هويتهم من جديد . حتى الدجاج والحيوان تتوه روحه وتتخبط رؤيته وتختلط عليه السبل عندما يترك ألفة المكان والزمان.لكن الحيوان لا يعرف معنى الماضى المعشش في المكان فليس عنده معنى السمو السامق في المآذن ولا معنى الحنو الكامن في الشوارع والبيوت ولا معنى التاريخ النائم في الأزقة والجدران. الإنسان وحده هو الذى يمتلك خيالا مكانيا يجعله يربط بين المكان والقيمة،والتاريخ والسمو،والتراب والتضحية.
هذا البعد الروحى العميق السامى السارى في جسد المكان هو ملك للإنسان وحده فلماذا تهدمون روح الإنسان إذ تهدمون روح المكان؟ الذى نحيا فيه ويحيا فينا . ياسادة الحياة الاجتماعية والثقافية والتاريخية مدرجة برمتها في حنايا المكان، فلماذا تبدل وتمزق السلطات الآن المحيط الذى نحيا فيه؟ وياليتها طورته بل تستغله لمجرد مصالح مؤقتة غريبة علينا جميعا. بما يرسخ حالة من الاختلال الاجتماعى المهين واللاتكافؤ الاقتصادى المؤلم لنا جميعا؟ إننا نحس بأن القهر الذى تمارسه السلطات ببشاعة على روح المكان يعمق الشعور بالقهر ويؤسس عدم المساوة الاجتماعية ويرسخ حالة الطبقية الفادحة. نحن بحاجة للحب والحماية والروح بحاجة إلى الوطن بعد أن تم تهجيرنا جميعا ونحن داخل الوطن.
أمشى في القاهرة الآن كأننى غريب اليد والوجه واللسان. كأننى سائح لا أعرف كيف ولماذا وأين؟ أضف إلى ذلك هذه الأعداد الهائلة من أصحاب الجنسيات الأخرى التي هجمت علينا من كل حدب وصوب يغذون ويملؤون الأماكن برائحتهم الغريبة كأنهم يمارسون مع سياسة الهدم إحلالا أجنبيا غريبا وإبدالا اقتصاديا مرهقا قاسيا لتاريخنا وهويتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. ما كل هذا التمزق في المكان؟ كل هذا التبعثر في الروح؟ كل هذا التفتت في الذاكرة؟ كل هذا المحو والهدم؟ ولصالح من؟. المكان في بلادنا صار خاضعا للعبة السلطة المطلقة. صار المكان عائقا في الروح.ماحيا للذكريات، خالعا للتاريخ. الشوارع يا سادة تمشى فينا قبل أن نمشى فيها.والوطن يحيا بالذكريات والماضى والمواقف والأحداث.
إن كل بلاد العالم المتحضر من حولنا تتطور لكن دون محو للماضى وتتغير دون محو للتاريخ. الإنسان ليس مجرد آلة مادية خرساء تنحط في مادة المكان الأخرس بل هو إدراك يلتقط، وذاكرة تستبقى،وروح تنتقى،وخيال يتجسد ويتخير. فلماذا لم نعد نبصر ما يربطنا بالمكان،ولا نسمع ما نحبه في المكان، ولا نمارس مايربطنا بالمكان ارتباط الروح بالجسد؟. إن جهازنا العصبى والروحى معطل منطفىء يعانى الغربة والانخلاع والخراب. نحن نعيش الخراب المكانى والفراغ الزمانى والعدم الروحى بكل معانى الكلمة.
*كاتب وأكاديمي مصري