‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د إياد البرغوثي: النظام العربي والإسلام السياسي.. أدوار وليس مواقف

دعونا بداية، نتصور مشهد التحول “الدرامي” لتوجهات النظام العربي تجاه الإسلام السياسي، منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن. في البدايات كانت الأنظمة العربية “المحافظة” تقف إلى جانب الإسلام السياسي في حين وقفت الأنظمة “التقدمية ضده. كان ذلك التوجه “طبيعياً” أو لنقل مُتفهماً، ولو من زاويته الاجتماعية على الأقل. 

في ذلك الوقت، كان النظام العربي منقسماً على توجهات اجتماعية وفكرية وسياسية؛ محافظ وتقدمي، معتدل وثوري.. وهكذا. الآن، لم يَعد ذلك النظام منقسماً على أي شيء، فالكل بات “ليبرالياً” (اقتصادياً واجتماعياً)، وإن كان هناك اختلافٌ ففي درجة العمق و”الإبداع” في ذلك، والكل أصبح “معتدلاً” من ناحية وطنية وقومية، والاختلاف هنا أيضاً في درجة الاعتدال و”الإبداع” في ذلك. لم يعد هناك ما ينقسم النظام العربي عليه، لكنه بقي منقسماً. 

واستكمالاً للمشهد، فهذا النظام الذي لم يعد منقسماً على شيء لكنه بقي منقسماً، انقلب موقفه من الإسلام السياسي الذي احتضنه في البدايات، إلى أن وصل إلى رفضه الآن بإصرار. (قد يحتاج الأمر هنا إلى نقاش حول خصوصية النظام السوري الجديد في هذا الإطار). فما السبب الذي دفع النظام العربي إلى ذلك؟

قد يفسر البعض ذلك “الانقلاب”، بأنّ النظام العربي تبدل من محافظ إلى ليبرالي، وبالتالي فمن الطبيعي أن يُبدل موقفه من الإسلام السياسي ومن الدين عموماً. لكن ذلك الرأي يبقى ضعيفاً إذ أن الإسلام السياسي أبدى مرونة ليبرالية “مشهوداً” لها خاصة في الحياة الاجتماعية، بل وصل في بعض بلدان المنطقة إلى قيادة التحول الليبرالي. 

المشهد الآن، نظام عربي ليس محافظاً ولا تقدمياً ولا ثورياً (لكنه منقسم)، مُجمع وبشراسة على عدائه للإسلام السياسي (ربما مع استثناء وحيد فقط). هذا “الإخلاص” و”التفاني” لدى النظام العربي في محاربته للإسلام السياسي، مثير ليس فقط للدهشة بل أيضا للاهتمام، أملاً في اكتشاف السبب وراء هذا الانقلاب “الغريب” في حِدته و”مثابرته”.

لكي يشيطن النظام العربي أيّ أمر الآن، يكفي ربطه بالإخوان المسلمين. كل أجهزة ذلك النظام ونُظمه وقوانينه وإعلامه ومراكز دراساته ومفكريه ومثقفيه، باتت مجندة ومستنفرة لمحاربة “العشيق” السابق، الإخوان المسلمين والإسلام السياسي عموماً.

مرة أخرى وحتى لا تضيع الفكرة، لا نهدف هنا إلى تقييم الإسلام السياسي أو الحكم عليه، لا لشيطنته ولا لـ”ملكنته” (من مَلَك)، فالذي يجري رصده هنا هو النظام العربي في حركته المتقلبة تجاه الإسلام السياسي. (أنتهز الفرصة هنا – وإن كان الوضع لا يتحمل كثيراً – للبدء في استخدام مصطلح “ملكنة”، مقابل مصطلح “شيطنة”، فليس من “العدل” أن يكون الشيطان قابلاً “للصرف” والمَلَكُ محروم منه، وإبقاء الشيطنة من غير “ملكنة” يعني وضعها مباشرة في مقابل مصطلح “تأليه”، وهو ليس عدلا أيضاً. وبما أن اللغة وُجدت قبل قواعدها، فمن حقنا أن نذهب بها خارج حدود تلك القواعد).

السؤال الآن، لماذا “تبنى” النظام العربي الإسلام السياسي في البدايات، ولماذا تخلّى عنه حد القتل الآن، ويلاحقه في كل مساحة الدنيا؟.

الجواب من وجهة نظري (وهو مفتوح للنقاش بالطبع) يكمن في انتقال المشروع الامبريالي الصهيوني في المنطقة من مستواه التكتيكي الجزئي والموضعي لإضعاف مراكز القوة فيها، إلى مستواه الاستراتيجي الهادف للإجهاز على أي “قيامة” لها حتى في الوجدان. 

وحتى أكون أكثر وضوحا، فإن الإسلام السياسي والإسلام عموما مثّل (وجدانياً) مشروع أمة، لكنه في نفس الوقت قابِلٌ (على الأقل في بعض حالاته الأساسية) للاستخدام ضد ما يُمَثل، فيذهب عملياً (وقد ذهب مرارا)، عكس ما يُفترض أنه يمثل في الوجدان، ضد الأمة ومشروعها. 

يدرك المشروع الامبريالي الصهيوني تماماً أن بإمكانه توظيف بعض أطراف من الإسلام السياسي في “حركته” في المنطقة ضد مشروعها “المُغَيب” في الوجدان (فلسطين والأمة)، وعندما ارتقى ذلك المشروع (الصهيوني) من مستواه التكتيكي الثانوي الذي يضرب بؤر معينة، إلى مستواه الاستراتيجي الشامل للإجهاز الكلي على فلسطين وعلى الأمة وفكرتها وربما على الإسلام نفسه كرابط من أهم روابطها، هنا تقرر “الاستغناء” عن التكتيك والذهاب إلى الاستراتيجيا، بمعنى التخلص من المستخدَم (الإسلام السياسي) من أجل التخلص مما يحمله من معانٍ هي التي باتت الآن المستهدف الأساس. 

الاستنتاج هنا أن النظام العربي، ليس له موقف من الإسلام السياسي اليوم ولم يكن له موقف منه في الماضي. هو ليس أكثر من دَور (يُكلف) به، كان مطلوباً منه أن يتبناه في الماضي عندما لزم ذلك، كما هو مطلوب منه أن يحاربه الآن عندما لزم ذلك أيضاً. ليس للنظام العربي مواقف.. بل أدوار فقط. 

هذا يضيف “عبئاً” على المثقف أيضاً، وهو ضرورة أن يكون حريصاً وهو يعبر عن رأيه في هذا المجال (أو غيره)، أن لا يتحول موقفه إلى مساهمة (دَور) في مشروع مضاد. في هذا الإطار،  البوصلة الحقيقية ليست النظام، وليست الحزب السياسي ولا الأيديولوجيا.. إنها فلسطين.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button