‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د التجاني بولعوالي (بروكسيل): حفل غنائي بـ 96 يورو… ومحاضرة علمية مجانية بلا جمهور!

بينما كنتُ أتصفح آخر الأخبار، استرعى انتباهي إعلانٌ لحفل غنائي لمغنٍّ شاب معروف سيُنظَّم قريبا بمدينة بروكسل، وتتراوح تذكرة الدخول فيه بين 53 و96 يورو للشخص الواحد! ويُتوقّع أن يحضره الآلاف من الجمهور. وقد أثار هذا الخبر مجموعة من التساؤلات والأفكار، وددت أن أتقاسمها في هذه الخواطر الذاتية.

وأرى بداية أنّ مجتمعاتنا المسلمة باتت تشهد اليوم مفارقات صارخة إلى حدّ يدعو للاستغراب والتأسف، بل وللمراجعة الجذرية لأولوياتنا الفردية والاجتماعية والتربوية. وهذا الحدث يكشف عن جانب من تلك المفارقات؛ فمُغنّ شاب يعلن عن حفل في مدينة أوروبية يقترب ثمن تذاكره من المائة يورو، ومع ذلك سوف يتوافد الآلاف بلا تردّد، ويحجز بعضهم قبل أسابيع أو أشهر، ويسافر آخرون من مدن بعيدة فقط ليعيشوا سويعات من المتعة الفنية.

وفي المقابل، يحضر مفكر أو فقيه أو عالم قضى عقودا من عمره في التحصيل والبحث والتأليف، يخدم مجتمعه وأمته بلا مقابل، ليلقي محاضرة في جامعة عريقة أو مركز إسلامي أو مؤسسة بحثية، فلا يتابعه إلا حفنة من الناس يُعدّون على أصابع اليدين؛ رغم أن الدخول مجاني، بل وغالبا ما يتكبّد المحاضر نفسه عناء السفر والوقت من دون أن يسأل شيئا.

وأعتقد أن هذه المفارقة لا تحدث صدفة، بل هي مرآة تعكس بصدق طبيعة الاهتمامات التي باتت تحكم كثيرا من تصرفاتنا وخياراتنا نحن المسلمين. إننا نجيد لوم واقع الأمة، والتحسر على تخلفها، وندب انحطاط الوعي، لكننا نغفل أو نتغافل عن النظر الجاد في أسباب هذا التقهقر، وكيف وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه، حتى أصبحنا مثار سخرية لأمم كانت تعتبرنا في الماضي قدوة ومثالا. فالمجتمعات لا تتقدم بالشعارات، ولا ترتقي عبر التفاهات، بل تتحقق نهضتها عندما يصبح العلم نبراسها، والمعرفة سفينتها، والأخلاق ديدنها، وعندما يكون للعالم والمفكر والباحث والأديب وزنٌ اجتماعي حقيقي يضاهي، أو يفوق وزن الفنانين واللاعبين ومؤثّري التفاهة والروتين اليومي.

ولا يعني هذا أننا ننكر أهمية الفن والجمال والأدب وأثرها الإيجابي والسامي، لاسيما عندما تكون راقية وملتزمة، لكن الإشكال القائم اليوم هو أن هذه العناصر الترفيهية والتحسينية في الحياة والمجتمع تحوّلت إلى أولوية مطلقة في وسائل الإعلام والمناهج التربوية والبرامج السياسية، بينما ينزوي أهل الفكر والعلم والمعرفة خلف جدران الصمت، ولا نكاد نسمع بهم إلا عند رحيلهم.

ومن هذا المنطلق، فإن الأزمة الحقيقية لا تكمن في المُغني الشاب، بل في الجمهور الذي يقرر أين يضع أمواله وجهده ووقته. فإذا كان آلاف الناس مستعدين لدفع ما يقارب مائة يورو لحفل يستمر ساعات أو مقابلة كرة قدم لا تتجاوز ساعتين، فلماذا لا يستطيع هؤلاء أنفسهم حضور محاضرة علمية أو ندوة فكرية لا تكلّف شيئا؟ وإذا كنا نردد ليلا ونهارا أن الأمة تحتاج إلى نهضة ووعي وإصلاح، فمن أين ستأتي هذه النهضة إذا كان أكثرنا لا يمدّ يدا نحو منابع العلم، ولا يفتح أذنا لكلمات العلماء، ولا يخصص وقتا للاستفادة من الأدمغة التي تحفظ ميراث الأمة وتطوّره؟

وفوق ذلك، يوجد في الجانب الآخر من العالم من المستضعفين من ينتظر شربة ماء تُنقذ حياته، ولقمة خبز تُسكت جوعه، بينما تُصرف مئات الآلاف من اليوروهات على أمور ثانوية قد لا تزيدنا إلا غفلة. والمشكلة ليست في الترفيه ذاته، بل في اختلال ميزان الأولويات، حين يصبح الترفيه قاعدة، والعلم استثناء، وتصبح التفاهة هدفا، والمعرفة عرضا.

لذلك، فإن إصلاح حال الأمة يبدأ من الفرد، وبالتحديد من وعيه الشخصي، ومن خياراته اليومية البسيطة. ولا تتغير هذه الحال حتى تنصلح الأمة، ويقرر الناس حضور محاضرة نافعة بدل استهلاك ترف غير هادف، ودعم أهل العلم والمعرفة كما يُدعم الفنانون. ولن تتحقق هذه الأمنية الغالية إلا عندما يصبح العالم قدوة، ويصير للفكر قيمة، ويضحى حضور مجالس العلم نمطَ حياة لا مناسبة موسمية.

وفي خضم هذه الوضعية المزرية، تكتفي الغالبية بالتباكي على واقع المسلمين! والمفارقة العجيبة أنّ أوّل المتباكين هم أنفسهم أولئك الذين يدفعون بسخاء لمتابعة سويعات من حفل غنائي أو مباراة رياضية. ولا يمكن أن نتوقف حقا عن هذا التباكي أو البكاء إلا عندما نراجع قراراتنا، ونحاسب أنفسنا، وندرك أولوياتنا؛ فالأمة لا تنهض بالغناء أو الترفيه وحده، بل تنهض عندما يصبح العقل نبراسا، والمعرفة أولوية، وأهل العلم والفكر والأدب قدوة حقيقة.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button