‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د محمد فخرالدين: في الحاجة إلى أنثروبولوجيا للصحة

على هامش ما يحدث في القطاع الصحي

بالإضافة إلى البنية التحتية والموارد البشرية الإدارية والصحية و الشبه صحية واقتصاد الصحة والسياسة الصحية وكل ما يتعلق بالسياسات العامة واللوجستيك وبالصحة من علوم إنسانية ذات طابع نفسي أو اجتماعي أو اقتصادي ..

تطرح أسئلة أعمق ذات طابع انثروبولوجي، أسئلة منغمسة في الثقافة والتاريخ ومتعلقة بالنشأة الحديثة للمؤسسات الصحية وطبيعة انغراسها وتوزيعها واختصاصها داخل المجتمع حين خروجها من جبة الطب التقليدي كما فهمه المجتمع ذات صحة، والتحولات التي أصابت السياسة الصحية من خلال التمفصل بين قطاع عام وخاص كل له دلالته ووسمه لدى المواطن والمدبر الصحي محاولة تقليص نفقات القطاعات الاجتماعية باعتبارها غير منتجة ….

تظهر الحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى أنثروبولوجيا الصحة باعتبارها  علما ضروريا لفهم مختلف التوجهات والممارسات المتعلقة بالصحة بهدف تفعيلها في المجتمع ، فهي فرع من الأنثروبولوجيا الاجتماعية، يدرس الصحة والمرض والرعاية عبر الثقافات والمجتمعات، ويحلل كيفية تأثير العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية على إدراك الصحة وإدارتها و نجاعتها في تحقيق رعاية صحية مقبولة  .

 يختلف هذا العلم عن الطب في أنه ينظر إلى الصحة كظاهرة بيولوجية وثقافية واجتماعية وسياسية،ويهتم بنظم المعتقدات وممارسات الرعاية والتجارب المعاشة مع المرض والصحة من خلال التركيز على التوجهات الجماعية حول الصحة .

و يمكن القول أن أنثروبولوجيا الصحة(أوالأنثروبولوجيا الطبية) فرع من الأنثروبولوجيا الاجتماعية، “نشأ من الدراسة المقارنة لأنظمة الفكر والتنظيم الاجتماعي التي تدبر الصحة والمرض والرعاية، وكذا التنوع البيولوجي والثقافي بين البشر وتأثيره على القطاع الصحي” .

ويهتم علماء الأنثروبولوجيا الطبية اليوم بمجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك الأسس الاجتماعية (الثقافية والسياسية والتاريخية والمعرفية) للصحة وتوزع الأمراض، والتأويلات (التمثلات، والمعارف، والقيم، والمؤسسات)، والممارسات (التقنيات، والأدوار والعلاقات، والبرامج)، والمؤسسات المتعلقة بالصحة أو العلاج.

يستخدم هذا التخصص مناهج من الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية لدراسة المسائل المتعلقة بالصحة والمرض والشفاء والرعاية.

وقد شهدت بداية القرن الحادي والعشرين ظهور مفهوم “الصحة الشاملة”، الذي حدّد علاقات جديدة بين القضايا المحلية والمؤسسات أو البرامج العالمية، من خلال تدخل المنظمات الدولية مما عقّد العلاقات مع أنظمة الرعاية الصحية الوطنية .

 ويتابع علم الأنثروبولوجيا الطبية هذه التطورات من خلال تحليل الحاجات والاستجابات الاجتماعية ، و من خلال رصد ميزانات للصحة العامة التي تكون غير كافية في الغالب لتغطية الحاجة الاجتماعية للصحة .

 وتحليل وتشخيص طبيعة منسوب للأمراض الناشئة و المستجدة أوتلك الناجمة عن التغيرات المجتمعية مثل تغير نمط التغذية والذي يؤدي إلى تنامي الإصابة بمختلف الأمراض المزمنة و منها السرطان و أمراض السكري ..، بالإضافة إلى أثر الأدوية الجديدة وسبل العلاج و تقنياته والابتكارات الطبية الحيوية المرتبطة بالعلاجات الصحية .

 ويوسع هذا العلم نطاقه في إطار نهج “الصحة الواحدة”، ليشمل المجتمعات البشرية (سواءً كانت مجتمعية صغيرة أو عالمية، وربما تشكلت في فضاءات اجتماعية رقمية)، والعوامل المُعدية المختلفة المؤثرة في المرض والعلاج .

 لا تزال الأنثروبولوجيا الطبية تمارس في اطار توسيع الاستفادة من الخدمات الصحية  لتحسين صحة السكان خاصة من الفئات الفقيرة و المهمشة،وإضفاء الطابع الإنساني على التدخلات الطبية ، ومكافحة التمييز وعدم المساواة في الوصول إلى الرعاية الصحية  الفعالة و الشاملة ، وفهم أفضل للقضايا وإكراهات  الصحة مثل نقص التجهيزات او الموارد البشرية و تنامي الطلب حول الصحة و منافسة القطاع الصحي الخاص للصحة العمومية التي تلجا إليها الطبقات الفقيرة من المجتمع،والاعتراف بالمعرفة الصحية الخاصة لدى الأقليات والدفاع عنها باعتبارها نتيجة الخبرة الثقافية التقليدية في مجتمع معين .

والملاحظ الآن أنه لا تكفي البنايات الصحية والعناوين العريضة المكتوبة بالأزرق لتلقي الطمأنينة الصحية وتزرع الأمل في النفوس ، وليخفف الاكتظاظ المؤرق للشغيلة الصحية المشتغلة في المرفق العمومي وقلة التجهيزات ونقص الحافزية وساعات العمل ومشاكل الدوام والاجور ، ولتجاوز العنف اللفظي وعدم التواصل الإيجابي وكل مظاهر الرفض والتشنج المتبادل بين المرفق الصحي والمرتفقين ..

 ينبغي إن تكون ثقافة اجتماعية للصحة، وفكر عام وعي جمعي بالحق في الصحة يتقاسمه المشتغل بالصحة والمستفيد منها  ..ومن تم يطرح السؤال كيف ينظر الناس إلى المؤسسة الصحية بشكل خاص وإلى الصحة بشكل عام  …

كيف نرى الصحة وماهو المنظور الذي نراه بها في ثقافتنا ومن خلالها ، كيف نرى المستشفى والطبيب والممرض والمرض و كيف نتقبله و بأية صورة،أم ان الخوف من الذهاب إلى المستشفى يكون عند البعض منا أكبر من الخوف من المرض نظرا لظروف معلومة كالاكتظاظ عدم وجود هيأة للاستقبال مناسبة في بعض المستشفيات ، وقد نجد بعض الممارسات المحدودة التي تزيد هذه الرهبة من المشفى عندما تغيب سبل التواصل التي من أهم المتطلبات في المرفق العمومي سواء كان عموميا أو خاصا ..

و  كذلك عندما يتم الربط بين الصحة و المال خاصة في المشفى الخاص …و يكون عند البعض الاغتناء على ظهر الجسد المريض مجالا للترقي الاجتماعي بعيدا شيئا ما عن القسم ..و كثيرة هي الحكايات الشعبية التي يرويها الناس عن العلاجات الوهمية و المستحقات الباهظة التي تثقل ظهر المريض أو أهله ناهيك عن الأخطاء المحكي عنها بشجن  ..مما يؤدي إلى الشك و الارتياب في العلاج ، و بعض التشبيهات الممتعضة التي تشبه بعض المشفيات بمحلات  للجزارة و البيع و الشراء و الدفع المسبق ..مما ينشر تلك التمثلات السلبية عن مكان الاستشفاء الذي قد يتخذ في المتخيل الجمعي صورة مكان للموت و تسليم الروح عوض كونه مكانا لاستعادة الصحة و الطمأنينة   .

فهل نؤمن في ثقافتنا بالحق الجماعي في الصحة سواء كنا مشتغلين في القطاع أم مستفيدين منه ، أم تظل الصحة أمرا فرديا ميتافيزقيا يعيشه الإنسان بشكل فردي دون أن يشكل الأمر حقا عاما ،أو يصل إلى تخيل اجتماعي صحي لمجتمع سليم، ومنظور جماعي للصحة منظم بشكل مؤسسي ضمن تعاقد واضح ..

ماذا تعني الصحة للمواطن البسيط من منظوره، ومن منظور أشباهه ممن يقولون العبارات التالية: المهم هي الصحيحة…؟

 وكي دايرة الصحة..والصحة هي  كلشي …و تهلى غي في الصحة .

 إن التصور الأنثروبولوجي للصحة لا يعني جسدا سليما مرئيا من طرف الغير على صورة ما ، الله يخلي النظرة زينة ، تعني كونه لا يعاني من أي داء وفق مواصفات استطيقية معينة ، بل هو غياب الشعور الداخلي بالألم ، أو على الأقل التعايش مع الألم المتوسط لأطول فترة ممكنة إلى أن يأتي الأجل المحتوم عوض التعجيل المستعجل ، في غياب تصالح المواطن مع الصحة التي تظهر له في الغالب شيئا غير ممكن استعادته، خاصة وأن الاستقبال الصحي في الغالب غير ملائم ولا مواسي ولا يقيم اعتبارا  أحيانا لنفسية المريض لظروف موضوعية ومبررة ، فيتمنى هذا الأخير من صميم نفسه أن لا توصله الوقت أو الظروف إلى المشفى ويموت في بيته …

ماذا تعني الصحة للمواطن وماذا تعني لمهنيي الصحة ، وهل يتعلق الأمر بالصحة الجسدية أم النفسية… لا شك أنها لا تعني شيئا واحدا ، فالكل ينطلق من تصور معين لمفهوم الصحة إما مفهوم فردي أو اجتماعي أو منظور واقعي أو متخيل…

 أو منظور مهني وظيفي، ومع ذلك يبقى منظورنا الثقافي العام للصحة والمرض منظورا ملغزا تتنازعه مشاعر الرفض باعتباره نتيجة عين أو حسد ، وقبوله باعتباره مكتابا لا مفر منه ،و ليس لكونه أمرا طبيعيا وعاديا من منظور عقلاني .

  ولا بد لكل إنسان أن يمر منه لسبب من الأسباب مهما طالت صحته ودامت سلامته، ومن تم ضرورة وجود مستشفيات ملائمة وظروف استشفاء مناسبة لكل مراحل العمر وكل ما يعتري النفس و الجسد من علل وأسباب تدفعه لطلب الاستشفاء ، لتغيير هذه النظرة ، أما إذا انتقلنا إلى تصورنا الأنثروبولوجي للصحة النفسية والعقلية فسنضيع في التأويلات وتزداد صعوبات الحديث في مجال حديث نسبيا هو أنثروبولوجيا الصحة العامة ..

لا بد أن تتوحد التصورات حول الصحة ومكان الاستشفاء من خلال الاعتراف للمواطن بالحق في العلاج و جعل الأطر الصحية قادرة على ممارسة مهامها في ظروف ملائمة بعيدا عن الضغط والإكراه العددي أو الزمني، والبعد عن كل الممارسات الغير المناسبة التي تغيب التعامل الحسن واللائق مع المريض و الاحترام اللازم للإطار الطبي من أجل مستشفي يليق بهذا العصر وعلاقات يغلب عليها الطابع الانساني ..وتظل الحاجة إلى الانثروبولوجيا الوظيفية التي تستند الى علم الثقافة العام وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع..  أساسا لتنمية القطاعات الاجتماعية و تكوين المتدخلين فيها وليست مجرد ترف فكري ..

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button