

مقدمة:
يشهد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي استخدامًا متزايدًا للنصوص الدينية لتبرير العمليات العسكرية، ومن بينها الإشارات إلى قصص توراتية مثل قصة جدعون في سفر القضاة. يُزعم أن مصطلحات مثل “عربات جدعون” تُستخدم رمزيًا للإشارة إلى القوة العسكرية في الحملات ضد الفلسطينيين، خصوصًا في سياق العمليات العسكرية في غزة. يهدف هذا المقال إلى تحليل قصة جدعون وأبيمالك في سفر القضاة (الإصحاحات 6-9)، وفحص مدى مشروعية استخدام هذه النصوص في تبرير العنف، مع التحذير من العواقب الأخلاقية والسياسية لمثل هذه القراءات.
قصة جدعون: السياق النصي والتاريخي
وفقًا لسفر القضاة (6:2-6)، عانى بنو إسرائيل من اضطهاد المديانيين، الذين دمروا محاصيلهم وأجبروهم على الاختباء في الكهوف. اختار الله جدعون، الملقب بـ”يربعل”، لقيادة حملة ضد المديانيين. استخدم جدعون تكتيكات بسيطة، مثل الأبواق والجرار والمشاعل، مع 300 مقاتل لتحقيق النصر (القضاة 7:19-25). النص لا يذكر عربات حربية، بل يركز على الحيلة والمفاجأة كعوامل حاسمة.
مصطلح “عربات جدعون”، الذي يُستخدم في الخطاب المعاصر، هو إضافة لاحقة لا أساس لها في النص الأصلي. قد يُستلهم هذا المصطلح من رمزية المركبات الحربية في التاريخ القديم، مثل مركبات الفراعنة أو الحثيين، أو من دبابة “ميركافا” الإسرائيلية الحديثة، التي تعني “المركبة” بالعبرية. هذا الإسقاط يعكس محاولة لربط النصوص الدينية بالقوة العسكرية الحديثة، لكنه يفتقر إلى الدقة النصية.
لعنة يوثام: تحذير من الظلم
في الإصحاح التاسع من سفر القضاة، يتحول السرد إلى أبيمالك، ابن جدعون، الذي سعى للسلطة بقتل إخوته السبعين (القضاة 9:4-5). يوثام، الابن الناجي الوحيد، أطلق تحذيرًا يُعرف بـ”لعنة يوثام”، حيث شبّه أبيمالك بشوك العوسج الذي قبل الملك بينما رفضته الأشجار النافعة (الزيتونة، التينة، الكرمة). تنبأ يوثام بأن اختيار أبيمالك سيؤدي إلى دمار متبادل بينه وبين شعب شكيم (القضاة 9:20).
تحقق التحذير عندما ثار أهل شكيم ضد أبيمالك، فهدم الأخير المدينة وأحرق سكانها (القضاة 9:45-49). لكن أبيمالك لقي حتفه برحى ألقتها امرأة (القضاة 9:53-55). يُختتم النص بالقول إن الله “رد شر أبيمالك وشر أهل شكيم”، محققًا لعنة يوثام (القضاة 9:56-57). هذه القصة تحذر من عواقب الظلم وسوء استخدام السلطة، وتؤكد أن الطغيان يؤدي إلى الدمار الداخلي.
نقد استخدام النصوص الدينية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تُستخدم النصوص التوراتية، مثل قصة جدعون، لتصوير الفلسطينيين كأعداء تاريخيين (مشابهين للمديانيين)، مما يُضفي شرعية دينية على العمليات العسكرية. على سبيل المثال، مصطلح “عربات جدعون” قد يُستخدم للإشارة إلى القوة العسكرية الإسرائيلية في عمليات مثل تلك التي تستهدف غزة. لكن هذا الاستخدام يثير إشكاليات أكاديمية وأخلاقية:
1. عدم الدقة النصية: قصة جدعون لا تتضمن مركبات حربية، بل تعتمد على تكتيكات بدائية. استخدام مصطلح “عربات” هو إسقاط حديث يبتعد عن السياق الأصلي للنص، مما يُضعف المشروعية الدينية للخطاب (Hendel, 2005).
2. تجاهل الدروس الأخلاقية: لعنة يوثام تحذر من الظلم والطغيان، سواء تجاه الآخرين أو داخل المجتمع نفسه. استخدام قصة جدعون لتبرير العنف يتجاهل هذا التحذير، مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية، كما حدث في النص مع دمار شكيم وأبيمالك.
3. تعزيز الأيديولوجيا القومية: الخطاب الذي يُسقط النصوص الدينية على الصراعات الحديثة غالبًا ما يخدم أيديولوجيا قومية تهدف إلى تعبئة الدعم الداخلي، لكنه يُفاقم الانقسامات ويُعزز خطاب الكراهية (Said, 1978).
إسقاط المشروعية عن الخطاب الديني المحرض
استخدام النصوص الدينية لتبرير العنف، كما في حالة إسقاط قصة جدعون على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يفتقر إلى المشروعية للأسباب التالية:
• التفسير الانتقائي: اختيار أجزاء من النص (مثل نصر جدعون) مع تجاهل تحذيراته (مثل لعنة يوثام) يُشوه المعنى الأصلي ويُحول النص إلى أداة أيديولوجية (Barton, 1996).
• السياق التاريخي: النصوص التوراتية تُكتب في سياقات تاريخية محددة، وإسقاطها مباشرة على الواقع المعاصر دون مراعاة التغيرات الاجتماعية والسياسية يُعد إساءة استخدام (Finkelstein & Silberman, 2001).
• العواقب الأخلاقية: النصوص نفسها تحذر من الظلم، كما في قصة أبيمالك، التي تُظهر أن الطغيان يؤدي إلى الدمار الداخلي. استخدامها لتبرير العنف يتناقض مع رسالتها الأخلاقية.
التحذير من العواقب
إسقاط النصوص الدينية على الصراعات المعاصرة، مثل الحملات العسكرية في غزة، قد يؤدي إلى:
• تصعيد الصراع: الخطاب الديني المحرض يُعزز الانقسامات ويُقلل من فرص الحوار والتسوية (Gopin, 2002).
• الانقسام الداخلي: كما في قصة أبيمالك، قد يؤدي الظلم إلى صراعات داخلية، مما يُهدد استقرار المجتمع.
• فقدان المشروعية الدولية: استخدام خطاب ديني لتبرير العنف قد يُضعف الموقف الأخلاقي للأطراف المعنية في المحافل الدولية.
الخلاصة
قصة جدعون وأبيمالك في سفر القضاة تحمل دروسًا أخلاقية عميقة حول مخاطر الظلم وسوء استخدام السلطة. استخدام هذه النصوص لتبرير العمليات العسكرية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما في إشارات إلى “عربات جدعون”، يفتقر إلى المشروعية النصية والأخلاقية. لعنة يوثام تُحذر من أن الظلم يؤدي إلى دمار داخلي، وهي رسالة ذات صلة لجميع الأطراف. الحل يكمن في تعزيز الحوار والعدالة، وتجنب توظيف النصوص الدينية كأداة لتأجيج الصراعات.
المراجع
• Barton, J. (1996). Reading the Old Testament: Method in Biblical Study. Westminster John Knox Press.
• Finkelstein, I., & Silberman, N. A. (2001). The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Its Sacred Texts. Free Press.
• Gopin, M. (2002). Holy War, Holy Peace: How Religion Can Bring Peace to the Middle East. Oxford University Press.
• Said, E. W. (1978). Orientalism. Pantheon Books.
• الكتاب المقدس، سفر القضاة، الإصحاحات 6-9. (الترجمة العربية المشتركة)