اختارت المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم المفكر عبد الإله بلقزيز رمزاً للثقافة العربية لسنة 2024، بعد الفنانة الكبيرة السيدة فيروز (2017) والشاعر الكبير محمود درويش (2018). هم ثلاثة رموز كبار في الموسيقا، والشعر، والفكر، يجتمعون في العطاء، عطاء وافر، باسق، رفيع، يخضب الثقافة العربية مثلما يخضب عطاءُ المطر الأرضَ، ويسلك فيها ينابيع.
يكتب عبد الإله بلقزيز كما يتنفس، يبحث في الفلسفة عموماً وفي الفلسفة السياسية خصوصاً، ويبدع في الرواية، وفي صنف هو بين الشعر والنثر يسميه “نصّاً”. تندرج مصنفاته الفكرية في “مشروعات بحثية” باذخة، استشرافية تتسم بالتجديد من حيث الأسئلة، ومن حيث أدوات التحليل. يدرس موضوع “الدولة الوطنية” من زوايا غير مسبوقة، فيها “نقد مزدوج” لنظرية الدولة في الأصول الفلسفية الغربية، ول”النظر إلى الدولة” في الفكر العربي الإسلامي، القديم والمعاصر. ويتناول العلاقة بين الدولة والدين بمساجلة مع كل من “السياسة الشرعية”
و “المقاربة الاستشراقية”. تحت عنوان “إسلاميات نقدية” يقترح عبد الإله بلقزيز تأصيلاً فكرياً من منظور تاريخي، لإشكالية الديني والدنيوي، ولمفهوم السلطة في النص الإسلامي، والفكر العربي. وله بحوث متميزة في القضايا العربية الكبرى، وفي خطاب الإصلاح والنهضة. رؤيته إلى العروبة فيها الثابت والمتحول. الثابت فيها فكري، وسياسي في آن. العروبة ماض، حاضر، ومستقبل. هي ثقافة اجْتبى لها التاريخ مكاناً بين الثقافات، وحضارة هي في تدافع لا يخبو ولا يهمد مع سائر الحضارات الإنسانية. أما المتحول فيها فهو إجرائي، يتعلق بالطريق المفضية من “العروبة إلى العروبة”، وبالأشكال المؤسسية المناسبة التي يفرزها التطور. أتقاسم مع عبد الإله بلقزيز “فكرة العروبة” التي هي عنده، وعندي، “مشترك ثقافي-لغوي تاريخي”، هو بمثابة “البنية الفوقية” (بمفهوم ماركس)، أو “العلاقة الثقافية” التي لا تكتمل من دون “بنية تحتية”، تتجسَّد بالأساس في “العلاقة الاقتصادية-السياسية”، “أي في منظومةٍ، يقول بلقزيز، متدرِّجة التكوين والتوسُّع من علاقات التبادل المادي (لا الرمزي فقط) بين البلدان العربية، يقوى بها نسيج الترابط بينها في أفق الانتقال من الاعتماد المتبادل إلى الشراكة، ثم الاندماج… وهذا هو الجديد الذي ينبغي أن يتغذى به مفهوم العروبة”. كما أتفق معه في أن من تعظيم المعاملات الاقتصادية البَيْنِيّة تتولَّد، في آخر التحليل، المصلحة المشتركة، ومن هذه تتولَّد دينامية الاندماج، والاتحاد، أو ما فوق ذلك.
لغة عبد الإله بلقزيز، مثل صوت فيروز، غير محدودة، ولها سطوة؛وهي أيضاً، مثل نظم محمود درويش، فيها بلاغة، وبيان، وسحر حلال. لغة تبلغ منتهى منتهاها في (رائحة المكان)، و (ليليات)، و(على صهوة الكلام)، و(أول التكوين). لو لم يُبْدع سوى هذه “الرباعية” الأنيقة والعميقة لاستحق بذلك، عن جدارة، أن تتلبَّسَه الثقافة العربية رمزاً من رموزها الكبار، وهم كُثْرٌ، و خيطاً من “أنوار عربية” مُشْرِقة وممتدَّة، يريدون عبثاً أن يطفئوها بأفواههم.