
(كش بريس/ التحرير) ـ في تجربة تربوية فريدة من نوعها، تشي نتائج دراسة حديثة بأن التعليم القائم على علوم الدماغ يمكن أن يُحدث انقلابًا في مسارات الحراك الاجتماعي والاقتصادي، حتى داخل الفئات ذات الدخل المحدود. فقد كشفت دراسة أجراها مركز دالاس لصحة الدماغ بجامعة تكساس ومعهد مومنتوس، أن طلاب مدرسة ابتدائية بمدينة دالاس، ينتمي نحو 80% منهم إلى أسر منخفضة الدخل، مرشحون لتحقيق دخل يفوق نظراءهم من الأسر الثرية على امتداد حياتهم العملية.
هذا المعطى المدهش لم يكن نتاج الصدفة، بل ثمرة تربية مبكرة تتأسس على فهم علمي لآليات الدماغ، وعلى تعليم يدمج علوم الأعصاب بالصحة النفسية منذ السنوات الأولى من التكوين العقلي والعاطفي للطفل.
فمدرسة مومنتوس، التي تُعد مختبرًا تربويًا يمتد من مرحلة ما قبل الروضة إلى الصف الخامس، اشتغلت خلال أعوام (2016-2018) على بناء بيئة تعليمية متكاملة تزاوج بين المعرفة العلمية الدقيقة والتنشئة الوجدانية، وتمت مقارنة نتائج خريجيها مع بيانات المدارس المحلية لأبناء الأسر الميسورة والفقيرة على السواء.
النتائج جاءت مدهشة:
- 97% من خريجي مومنتوس حصلوا على شهادة الثانوية العامة.
- 48% منهم تابعوا دراستهم الجامعية، مقابل 31% فقط من أبناء الأسر الغنية في المقارنة.
- وبناءً على تقديرات معهد التوظيف الأمريكي، يتوقع أن يحقق هؤلاء الخريجون مداخيل مدى الحياة تتراوح بين 1.3 و2.7 مليون دولار للفرد، أي بزيادة 26% عن أقرانهم من الفقراء و9% عن أبناء الأسر الثرية محليًا.
لكن السؤال الجوهري الذي تطرحه هذه النتائج هو: كيف يمكن لمدرسة تخدم أطفالًا من أسر متواضعة أن تُنتج هذا التحول الاقتصادي والمعرفي؟
تُجيب الدكتورة جيسيكا غوميز، المديرة التنفيذية لمعهد مومنتوس، بأن السر يكمن في “تعليم علوم الدماغ وصحة النفس منذ الطفولة المبكرة”. فالتلاميذ يتعلمون، منذ سن الثالثة، كيفية عمل أدمغتهم، وكيف تؤثر العواطف والتوتر على التعلم، ويطورون تدريجيًا القدرة على تنظيم ذواتهم، وضبط انفعالاتهم، وتحفيز أدمغتهم نحو التعلّم المستمر.
ويضيف الدكتور أندرو نيفين، مدير “مشروع برينوميكس” بجامعة تكساس، أن الفصول في مومنتوس تتحول إلى مختبرات مصغرة لعلوم الدماغ، حيث تُعلّق الرسوم التوضيحية والتجارب المصغّرة التي تجعل الطفل يرى ذاته كـ“كائن متعلّم بوعي”. هذه التربية العصبية النفسية لا تُنمّي الذكاء المعرفي فحسب، بل تدرّب الطفل على مهارات التفكير النقدي، ومعالجة المعلومات، واتخاذ القرار — وهي مهارات ستصبح الفاصل الحقيقي بين الإنسان والذكاء الاصطناعي في عالم العمل المستقبلي.
وتؤكد الدكتورة جينيفر كيتيل من جامعة إلينوي، أن ما يُعرف بـ“التعلم الاجتماعي والعاطفي” — وهو أحد أعمدة منهج مومنتوس — يُنمّي الوظائف التنفيذية العليا للدماغ مثل التحكم الذاتي والمرونة المعرفية، وهي قدرات لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تقليدها لأنها مرتبطة بالوعي الأخلاقي والوجدان الإنساني.
من هنا، يتضح أن ثورة التعليم العصبي ليست مجرد إصلاح تربوي، بل هي إعادة بناء لعلاقة الإنسان بذاته وبمستقبله الاقتصادي والمعرفي. فعندما يتعلم الطفل كيف يعمل دماغه، فإنه لا يتعلم فقط كيف يفكر، بل كيف يعيش بذكاء ووعي وتوازن.
إن تجربة “مومنتوس” تقدم نموذجًا مغايرًا لفهم العدالة التعليمية؛ إذ تكسر المعادلة التقليدية التي ربطت النجاح الاقتصادي بالانتماء الطبقي أو الإمكانيات المادية، وتؤسس لفكرة الدماغ كأفق للمساواة الجديدة: فحين يتسلح الفقير بمعرفة علمية بآليات تفكيره، يتحول من ضحية للظروف إلى فاعل في صياغة مصيره.
وهكذا، يُعاد تعريف الذكاء لا كموهبة موروثة، بل كـ“قابلية للتنمية العصبية” يمكن هندستها بالتربية الصحيحة. هذا التحول المعرفي يفتح الباب أمام تصور فلسفي جديد للتعليم بوصفه هندسة للدماغ الإنساني نحو الحرية والتمكين، لا مجرد تلقين للمعلومات.
وفي عالم يتسارع فيه تمدد الذكاء الاصطناعي، يصبح الرهان على الذكاء العاطفي والاجتماعي هو الضمان الأخير لتميّز الإنسان، ذلك الكائن الذي لا يُختزل في خوارزميات، بل يتفرد بقدرته على اتخاذ القرار الأخلاقي، والإحساس، والإبداع.