‏ ‏برامجنا‏آخر المستجداتالمجتمع‏صوت المواطن

على مسؤوليتي: اليسار في زمن ما بعد الأيديولوجيا.. من خطاب التغيير إلى لغة الإدارة

ـ يكتبها مدير النشر: مصطفى غلمان ـ

تعيش الحركة اليسارية المغربية اليوم لحظة انكسار مزدوج. انكسار الفكرة قبل انكسار الأداة. فبعد أن كان اليسار عنوانًا للتحرر والتنوير الاجتماعي، صار يعاني من عجز في الرؤية، وارتباك في الخطاب، وانكماش في الحضور المجتمعي. ما يُصطلح عليه اليوم “أزمة اليسار” لا يُختزل في ضعف انتخابي أو انقسام تنظيمي، بل هو أزمة هوية فلسفية ومشروع حضاري، تمس جوهر وجوده كمقولة فكرية قبل أن تكون مشكلة بنيوية داخل أحزابه.

فمنذ أن فقد اليسار المغربي صلته بالأسئلة الكبرى التي كانت تؤطر وعيه. سؤال العدالة الاجتماعية، سؤال الحرية، سؤال التقدم ، انكمش إلى مجرّد إدارة للماضي بدل أن يكون تفكيرًا في المستقبل. تحوّل من خطاب نقدي يزعج السلطة والواقع معًا، إلى لغة بيروقراطية مهادنة تُدير الفراغ ولا تملأه. إنه يسار متعب من التاريخ، يلوك شعاراته القديمة دون أن يجد لها ترجمة في عالم جديد تتشكل فيه السلطة والمعنى بآليات رقمية، شبكية، وسوقية مختلفة كليًا عن تلك التي عرفها القرن العشرون.

إن أزمة الهوية تتجلى في ضياع المرجعية الفكرية الجامعة. فبين من لا يزال أسيرًا للمقولات الماركسية الكلاسيكية، ومن انجرف نحو الواقعية الليبرالية بدعوى التحديث، صار اليسار يعيش تعددًا بلا وحدة، وواقعية بلا نظرية. لم يعد اليساري اليوم يعرف من يخاطب، ولا بأي لغة يخاطب، بعدما فقدت الشعارات التاريخية جاذبيتها أمام جيل جديد يتفاعل بمنطق الصورة والهاشتاغ أكثر من البيان السياسي.

أما أزمة المشروع، فتتمثل في فقدان اليسار القدرة على صياغة بديلٍ مجتمعي يواجه به ما بعد النيوليبرالية. لقد تلاشى الحلم الاشتراكي، وغابت العدالة الاجتماعية كمفهوم تعبوي، وحلّت محلها البراغماتية التكنوقراطية التي لا ترى في السياسة سوى تدبير للممكن لا مساءلة للمفترض. هنا تحوّل اليسار من طاقة اقتراح إلى طاقة تبرير، ومن حاملٍ للمشروع الجماعي إلى تابعٍ لإيقاع الدولة وموازينها.

ثم تأتي أزمة الجاذبية الاجتماعية، فالأحزاب اليسارية لم تعد قادرة على تمثيل الفئات التي كانت جوهر مشروعها، الطبقة العاملة، الطلبة، المثقفون، الطبقات الوسطى المتضررة من اقتصاد السوق. لقد فقدت هذه القوى الثقة في خطابٍ لم يعد يعبر عنها، ولا في نخبةٍ صارت أقرب إلى لغة المؤسسات منها إلى لغة الشارع. وبذلك، لم تعد العلاقة بين اليسار والمجتمع علاقة تأثير متبادل، بل ذاكرة عاطفية مشتركة بلا امتداد واقعي.

الفلسفة السياسية تعلّمنا أن الأحزاب لا تموت حين تخسر الانتخابات، بل حين تفقد المعنى الذي يبرّر وجودها. واليسار المغربي، في صيغته الراهنة، يبدو وكأنه يعيش مرحلة “نهاية المعنى”، حيث لم تعد الفكرة الاشتراكية قادرة على الإلهام، ولا الأداة التنظيمية قادرة على الفعل. لقد صار الزمن السياسي يسير إلى الأمام، بينما بقي اليسار في وضع دفاعي متحجّر، يتحدث بلغة الأمس عن مجتمع يعيش في زمن الذكاء الاصطناعي، والخوارزميات، والاقتصاد اللامادي.

ومع ذلك، لا يمكن إعلان وفاته؛ بل يمكن القول إن ما يعيشه هو مخاض إعادة ولادة. فربما لا يمكن لليسار أن ينهض إلا إذا تخلّص من ثقل تاريخه، وشرع في إعادة بناء ذاته بوصفه فكرًا نقديًا إنسانيًا لا أيديولوجيا مغلقة. عليه أن يطرح أسئلة جديدة عن العدالة في عصر الرقمنة، عن الحرية في زمن المراقبة، وعن الإنسان في ظل الرأسمالية الرقمية.

فإن لم يفعل، سيبقى كما هو اليوم، ظلًا لأفكاره القديمة، يسير في جنازة نفسه بيدٍ مرفوعة وشعارٍ بلا صدى.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button