
تحيل كلمتي اليوم، في هذه اللحظة التي تجسد قيمة سلوكية واعتبارية خاصة، والتي أسجلها دون الوقوف على معيارية أو أي مقياس تقييمي خارج المألوف، إلى ما يشبه حالة انضباط أو مصدر إلهام يتمثل صفات القدوة والإسوة التي يتسنن بها، في عالم يتعرى من كل شيء، ويلفظ كل شيء ويسترخص كل شيء.
فالحديث عن سيدة من طينة الدكتورة فاطمة حسيني، لا يمكن تنظيره من زاوية التحديد أو الارتهان على الاستعارة الكلامية وتوتير العبارات والانفعال معها وبها، بل يقتضي من ضمن ما تقتضيه الأدبيات العامة من الإخلاص للمنجز العلمي والثقافي والإنساني، وتحويط كل ذلك بما يرى من مسائل السلوك، وقيمتها الأخلاقية، وتعدد تصريفها في المجتمع المعرفي، وفهمها ورؤيتها للعالم.
وأعتقد جازما أن قلمي لن يسعفني أبدا، في تعميق هذه التنويعات البرهانية، والمؤسسات الواجبية، بسبب ضيق الوقت، ومفاجأتي بتحديد موعد لقاء التكريم هذا، في ظروف تستهلك الطاقة وروح قتالية الطقس، وأشياء أخرى، لن تمنعني على الأقل، في :
أولا: تثمين هذه المبادرة النبيلة، التي جعلت من لحظة الاحتفاء بشخصية عظيمة، تكرس لدى المنظمين، العقل الأخلاقي العالم المقتدر، بقوتها المنطقية الهادئة، وروحها المنظورة التي تعتمد على الحس السليم، والرغبة الصادقة في بلوغ الصنعة القولية والبحثية من دون تعقيد أو ادعاء، وحضور نسقها مؤثرًا، ومحط اهتمام أهل التخصص في التربية والبيداغوجيا وعلوم اللغة ومتجاوراتها في الفكر والثقافة.
ثانيا: تتسق مبادرة الاحتفاء بتجربة الدكتورة فاطمة حسيني الرائدة، مع منهجيتها في توظيف دراسة علوم اللغة من منظور مساهماتها في القضايا التربوية وعلاقتها باللغة والتحيزات الثقافية، والتي تتطلب التفكير في الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها للتعليم نفسه والعمل في هذا المجال أن “يستحضر” اللغة، وهي قدرة بشرية بامتياز، وتحقيقها في لغة الضاد إحدى أهم مقوماتها. كما هو الحال بالنسبة للتمييز بين المعرفة التي أنتجتها علوم اللغة والتي تسمح لإلقاء الضوء على الظواهر والعمليات التعليمية، والتطورات النظرية التي يمكن أن تكون بمثابة مؤطرات مرجعية للبحوث التربوية أو للتجديدات المنهجية والتعليمية داخل برامج التدريس؛ وهو ما دأبت الدكتورة حسيني على مطارحته واستئثار أسئلته، موطنة لقولها الصريح، أنه لا يزال من الضروري التمييز بين الأشياء التي تم بناؤها والعمل عليها من خلال علوم اللغة مثل اكتساب اللغات الأجنبية والقراءة والتهجئة.
ثالثا: تنبثق فكرة العطاء لدى الدكتورة حسيني، من كونها تعبر جسر كونية اللغة، عبر فعل يسمو إلى قيمة “المنح الظاهرة”، تماما كما أوردها ابن عربي في “فصوص الحكم”، أنها تأتي ” على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في مُعين وعن سؤال غير مُعين. ومنها ما لا يكون عن سؤال. سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية”. وحري بنا هنا، أن نغرف من معرفة هذه المنح الظاهرة، الذاتي والأسمائية، كليهما ينفذان في جوهر ما تسعى إليه مكرمتنا، في استنهاض الهمم وحشدها واستنفارها، من أجل التعبئة لنصرة اللغة العربية، بتعليمها ونشرها خارج أوطانها، وبذل الوكد وغاية الجهد من أجل تمكينها على الخارطة اللغوية الوطنية الدولية، واستعمالها على أوسع نطاق، واستشراف مستقبلها في هذا العالم المتحول الذي نعيشه.
وهذا لعمري من أبلغ وأجود العلوم وأرقاها، وأنجعها في بناء الحضارة والعمران، وتكريم وتقدير الإنسان.
رابعا: يجود الزمان بمثل درر هذا الجيل الذهبي، من علماء اللغة العربية ومباهج تعليمها ومناهجها المعاصرة ومساراتها المعرفية المتعددة، وانبثاقها عن وعي راهني يستقصي أسئلتها ويفكك تجاويفها وامتداداتها، ويستحضر مثلها وأثرها في الذائقة والوجدان، ويقاوم أخابيل وأحابيل تشكيمها وإذلالها وتطويعها فيما لا أصل ولا فصل.
والباحثة المقتدرة فاطمة حسيني، تحارب على أكثر من واجهة، في هذا المرصد الاستراتيجي تحديدا، واجهة البحث العلمي والأكاديمي، وقد حققت فيه نبوغا لافتا وامتدادا تنويريا رائدا وتوسعا فكريا متواصلا. وواجهة العمل الجمعوي التطوعي، الذي تستنصر فيه الدكتورة حسيني، قوامة النحث على الصخر، والمواكبة الصيرورية لقضايا اللغة العربية وأسئلتها الحرجة، والجرأة في مطارحة البدائل والتأسيسات الميدانية لحلول النص والعقل ومنطق العمل.
وقد خبرت معدنها عن قرب وبصيرة، حيث عملنا ولا زلنا نعمل معا، داخل مؤسستين استراتيجيتين هامتين: الأولى وطنية وهي الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، التي تعد مرجعا ثقافيا وسوسيولوجيا مهما داخل مشهدنا الثقافي واللغوي الوطني بتقاطعاته المؤسساتية واستتتباعاته الفلسفية والسياسية والاجتماعية.
والمؤسسة الثانية، هو المجلس الأعلى للغة العربية بأفريقيا، الذي نفتخر بالانتماء إلى هيئته الإدارية العامة والذي يوجد مقره بأنجامينا بدولة تشاد، والذي يعد إطارا قاريا مهما للتعريف باللغة العربية ونشرها وتعليمها وتطوير أدوات الاشتغال بمنظوماتها ومناهجها المتحولة.
لا أريد أن ازيد على كل ما ذكرت، سوى أن مناسبة الاحتفاء بالدكتور فاطمة حسيني، كإحدى أهم عالمات الحقل التربوي واللغوي ببلادنا، هي مناسبة لاستعادة زخم ثقافة المحبة والاحترام الذي ما اانفكت عراه المقطوعة تنزف في مجتمع شارد منحول، ولعل الذي يفعله رواد الناقد في هذه الكوة النورانية الضيقة، لمثال يحتذى به في تصحيح التاريخ وتأسيس الموقف وتبليغه لمن في قلبه شيء من حتى .
*نص الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الدكتورة فاطمة حسيني، خلال الندوة العلمية الوطنية التي نظمها مركز الناقد بكلية اللغة العربية في موضوع “تعليم اللغة العربية وتعلمها لغة ثانية في ضوء المستجدات الحديثة” يوم السبت 21 يونيو 2025.