
أن تكون فخورا بانتمائك لبقعة جغرافية ما ، أمر يشاركك فيه الكثيرون في هذا العالم ، لكن، أن تكون حاملا لشعورك بمغربيتك، فهذا من المنطقي جدا، لن يستشعره مثلك سوى بنو جلدتك ووطنك، اللذين واللواتي تتقاسم معهم أشياء كثيرة ، منها ما هو معلن ومعروف، كامتلاكك وإياهم بطاقة وطنية، جواز سفر، وكل ما يخبر عن هويتك المغربية.
لكن، هناك ما لا يظهر بنفس الوضوح والسهولة، لكنه متجذر في الأعماق، وسار في الشرايين ، لتي تسري فيها دماء يصعب نسبتها إلى جنس أو عرق واحد، لكن، مالا يمكن الشك فيه هو أنها ها هنا عبر تاريخ طويل، تكون رباطا قويا لا يهتز لفواجع الزمن ولا لأزماته أو تعثراته .
تلمس تمغربيت وسحرها النابض في كل شيء ، لكنني اليوم ، لمسته عن قرب، بانبهار وإعجاب وفخر .
الفضاء كان عيادة طبيب.. الشخوص راشدون ،
لمدة غير قصيرة ، كان الهدوء يسود قاعة الانتظار التي غصت بالزائرين، لدرجة أن هناك من المرضى من لم يجد له مكانا للجلوس، في هذه اللحظة ينهض رجل كسا الشيب رأسه، ودعا سيدة مسنة إلى أخد مكانه. شكرته ممتنة وهي تدعو له باليسر والصحة .، في حين رد عليها بأن المسألة لا تستدعي كل هذا الشكر ، لإنها مسألة واجب .
التفت إليه أحد الجالسين، وشكره بدوره، وأعقب قائلا:
“مع الاسف، لم نعد نرى مثل هذه السلوكيات لدى الناشئة” .
تأسف الجميع من خلال ردود فعلهم والتي كانت بهزة رأسهم أو بتعبير صريح عن ما يلاحظ الآن من تراجع قيمي لدى الشباب.. هنا تحدث أحدهم وألقى باللائمة على قطاع التعليم ، الذي تخلى عن مهامه الرئيسة ، مقارنا ما يجري الآن مع سنوات الخمسينات والستينات ، حيث كانت المدرسة تسهم بنسبة كبيرة في النهوض بالتربية والتعليم الجديين .
في هذه اللحظة تحدتث إحدى السيدات، وكانت تبدو بسيطة في مظهرها ، لتخبرنا أنها حصلت على الشهادة الابتدائية في الستينيات، وكيف كان المعلمون يحظون بتقدير كبير من طرف الجميع ، وتحدتث عن المطعم المدرسي ، ووجباته حتى أنها قالت :
“كنا نعود الى البيت ونحن في حالة شبع” .
رد عليها الرجل شخصيا: لا يمكنني أن أتصور نفسي أمارس مهنة التعليم، لأنه جد متعب .. وأظن أن الأمر ازداد سوءا .
كان هذا الموقف كافيا ليحرك لدى إحدى الحاضرات رد فعل لطيف ، لكنه تضمن استهجانا لما قاله الرجل : عفوا ، ماذا كانت إذن مهنتك ؟
أجاب: كنت في قطاع السياحة التي استطعت من خلالها جني أموال لا بأس بها ، لأنني كنت أشتغل بأكبر وأشهر الفنادق في مدينة مراكش ، كان الزبناء الأثرياء ومن بينهم أسماء شهيرة في مجال الفن والسياسة والرياضة … على الصعيد العالمي .
بدأ الرجل يتحدث باعتزاز وسعادة عن صداقاته مع كثيرين من هؤلاء الزوار المميزين ، ويعود ليردد ، المغرب بلد جميل جدا …
الجميع أبدى إجماعا حول روعة البلد وخصوصياته ، لكن أحد الحاضرين قاطعه مدافعا عن مهنة التعليم ، ومشددا على الدور الذي لعبه المدرسون الفرنسيون في نقل ثقافة جديدة إلينا ، قوامها العمل الجاد والحض على النظافة ….لم يكن هناك أي تعليق ، بعدها التفت رجل ٱخر الى الفندقي واقترح عليه أن يؤلف كتابا يحكي فيه عن تجربته، ليستفيد منها الشباب في هذا القطاع على الخصوص ، لكن الرجل ابتسم ، وتبرم ، مؤكدا أن الكتابة لا تستهويه ، وأنه يفضل أن يقضي يومه في ممارسة المشي وقراءة الصحف …
حينها أخبره الآخر بأنه قد أصدر كتابا، هو المتقاعد من المكتب الوطني الشريف للفوسفاط ، هو صاحب التكوين العلمي، والذي بعد تقاعده..
اجتاز امتحان شهادة الباكالوريا ، وحصل على الإجازة ، الآن هو مولع بالكتابة .
أخرج من محفظته كتابا ،أاخد قلم حبر جاف ، وطلب من الرجل اسمه ، ليوقع له كتابه ، مضيفا إلى أن هذه دعوة له منه كي يجرب ذلك أيضا.
تبادل الإثنان أرقام الهاتف ، هنا نطقت السيدة المسنة معبرة عن إعجابها بما حدث :
جميل هذا ، عليك ياسيدي أن تكتب وتنشر صورك مع هؤلاء المشاهير .
ضحك الجميع ، وشجعوه على ذلك .
لم يخل اليوم من مواقف مشرفة الحاضرين ، حين تقدمت إحدى المؤسسات لهم /هن
يطلب أن نسمح لها بالدخول عند الطبيب ،ألانها تشعر بألم شديد ، وكان ذلك باديا عليها ، لم يستغرق الأمر وقتا طويلا حين أكد لها الجميع أنه بامكانها ذلك .
لا يمكن المرء أن لا يسعد بهذا السمو الذي أبدوه بدون تردد .
نعود للفندقي ابن الدار البيضاء ، من عصارة أحد أحيائها الشعبية ( درب السلطان)ر جل تبدو عليه الطيبة ، وهو يقدم أقراص مصنوعة من مادة الفلييو لإحدى السيدات حين سمع سعالها ..
ونصحها بتناول هذه الأقراص مع قليل من الحليب الساخن قبل النوم ، بعدها أخد يمرر الأقراص على كل من يتواجد أمامه ، مع الاصرار على ذلك مازحا بأنها مجرد أقراص لاغير، وبهذا نكون قد شاركنا الطعام .
هذه جملة تتردد بيننا مغاربة حين نتقاسم طعاما ما ، تأكيدا على روابط أصبحت تجمع بيننا . وعلينا احترامها .
في نفس القاعة كانت سيدة ترتدي لباسا عصريا في الستينات أو أكثر بقليل ، هي زوجة المتقاعد في الفوسفاط ، بدأت بإخبارنا كيف أنها وزوجها يعيشان خارج الدار البيضاء، ولهما ثلاتة أبناء (أطر عليا ), وأنها سعيدة بما أنجزه زوجها الذي رغم مرضه ، يصر على أن يحتفظ بحيويته وعطائه ، وكيف أنها عانت من مشاكل على مستوى القلب ، لكنها الآن في تحسن مستمر ، وحياتها السعيدة كانت جزءا من شفائها .
أمر استحسنه الجميع ، بل هناك سيدة صفقت لهذا ، وعقبت على ذلك بقولها :
الزواج شركة تنجح بكلا الطرفين ، لكن حين يخل أحدهما بواجباته ، فالنتيجة تكون غير مرضية تماما.
هنا ، تحدث المتقاعد السعيد ، وهو غارق في الضحك ، مما أثار فضول الحاضرين :
سأحكي لكم عن أحدهم ، كان قد قدم إلى الدار البيضاء في زيارة للطبيب، وعند خروجه من العيادة نسي زوجته إلى أن وصل إلى وجهته ، عندها هاتفها ليخبرها بالأمر.. طالبا منها الالتحاق به ..
غرقت القاعة للحظة في صمت.. استغراب ، انطلق النقاش مرة أخرى ، من مستهجن لهذه الفعلة المشينة ، إلى من حاول الدفاع عن الزوج بحجة أنه مريض ،(سبحان اللي ما يسها ) ,لكن ، النسوة جميعهن لم تكن راضيات ،فمنهن من قالت : لم يكن عليها ان تقبل ذلك وتعود اليه ،واخرى ردت بأنه كان عليها الذهاب الى الىقاضي ليفصلها عنه ،فهو لا يستحقها …اما الثالثة فكانت اكثرغضبا ،وقالت :
“هذا الرجل تنقصه التربية”
ضحك الجميع ، حتى أن الممرضة طلبت من الجميع الهدوء .
عادت المسنة بإخبارنا ، إنها عاشت الى جانب زوجها عيشة راضية والذي توفي منذ زمن بعيد ، تاركا وراءه ثلاثة أبناء ، هم الان أطر عليا، وكانت تبتسم وهي تخبرنا أنه بفضل عملها المتواصل والدؤوب ، على ماكينة خياطة ، استطاعت أن تنجح في مهمتها كأم ، وكأرملة .
لله درك سيدتي ،
كم تستحقين منا الاحترام!
نظر إليها الجميع بإعجاب ومحبة ، وأثنوا عليها وعلى مجهوداتها ، ابتسمت وأخبرتنا مرة أخرى أنها سعيدة بأبنائها ، رغم أن أصغرهم تزوج من فتاة ، لا تستطيع التجاوب معها كثيرا ، وزادت عن ذلك أنها حين حضرت اليوم لزيارة الطبيب ، كانت جد مستاءة من زوجة ابنها ، لكنها غفرت لها حين قبلت أن تقوم بإعداد وجبة غداء، عليها أن تقدم بعضها للجارة التي تقوم بالدياليز ، والتي تكون في حالة إنهاك شديدة، مما يستدعي مساعدتها والوقوف بجانبها .
قبول زوجة الابن بالقيام بهذا الواجب ، شفع لها عند حماتها .
سيدة تضج إنسانية ، وإحساسا بالواجب .
كان كل واحد من الحاضرين يؤكد أن هذا اللقاء الانساني والتلقائي ، خفف من وطأة الانتظار الممل ،كما خلف في نفوس الجميع ، سعادة كبيرة ، واعتزازا بالخصوصية المغربية :
غرباء، يلتقون في قاعة انتظار ، يحكون عن يومهم ومعيشهم ، بدون تكلف أو تبرم أو زيف ،أوكان كلما أنهى كل منهم فحصه من طرف الطبيب المعالج ،يعود للقاعة ، ليودع الآخرين بفرح يخفي لحمة روابط يصعب كثمها ، إلغاؤها ، أو فهمهها خارج هذه الدائرة ( تمغربيت )
18/11/2025





