‏12 ‏جهة‏آخر المستجداتأ‏حداث

فضيحة الكاميرات الخفية.. بين انتهاك الخصوصية وغياب ثقافة الكرامة داخل الإدارة العمومية

(كش بريس/التحرير)ـ تحولت واقعة اكتشاف كاميرات مراقبة داخل المراحيض المخصصة للسيدات بمقر التمثيلية الجهوية لوزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة بجهة الدار البيضاء سطات إلى زلزال أخلاقي وإداري غير مسبوق. فالقضية، التي فجّرتها الجامعة الوطنية للنقابة خلال مؤتمرها الجهوي، لم تعد مجرد “حادثة مهنية” بل أضحت رمزاً لانهيار أخلاقي وقانوني داخل بعض الإدارات، حيث تُختزل السلطة في المراقبة، وتُنسى الكرامة في تفاصيل الأجهزة والعدسات.

الحدث جاء في سياق مؤتمر مهني نظم تحت شعار “التزام ومسؤولية للدفاع عن كرامة الموظف”، لكنه سرعان ما تحول إلى محاكمة رمزية لمنظومة بيروقراطية متخشبة، تستبطن منطق الاشتباه والضبط، حتى في أخصّ فضاءات الإنسان وأكثرها خصوصية. فوجود كاميرات في دورة مياه النساء ليس فقط تجاوزاً إدارياً، بل جريمة تمسّ حرمة الجسد والكرامة الإنسانية، كما أكدت النقابة، مستندة إلى الفصل 24 من الدستور الذي يضمن حماية الحياة الخاصة، وإلى القانون 09-08 المنظم لمعالجة المعطيات الشخصية، والذي يجرّم جمع بيانات حساسة خارج أي مبرر مشروع أو متناسب.

لكن ما يجعل الواقعة أكثر خطورة، هو ما كشف عنه البيان النقابي من أن الكاميرات لا تقتصر على هذا الفضاء الحميمي، بل تمتد إلى قاعة الاجتماعات وممرات المكاتب، وأنها متصلة مباشرة بهاتف مسؤول إداري. إنها إذن منظومة مراقبة شمولية، لا تختلف في جوهرها عن الممارسات التوتاليتارية التي تجعل من الجسد والعقل معاً موضوعاً للرصد المستمر.

هنا يبرز السؤال الجوهري: من يراقب المراقِب؟ ومن يحمي المواطن حين تصبح الإدارة نفسها مصدر تهديد؟

أزمة الثقة داخل جهاز الدولة

إن هذه الواقعة لا يمكن فصلها عن أزمة الثقة المتفاقمة بين الموظفين والإدارة، حيث يسود شعور بالريبة، وتغيب ثقافة الاحترام والاعتراف بالكرامة المهنية. فالتحكم عبر الكاميرات ليس سوى انعكاس رمزي لثقافة أعمق: ثقافة الشك، وانعدام الحوار، وتآكل المسؤولية الأخلاقية في الفضاء العمومي.

النقابة لم تكتف بالتنديد، بل طالبت بإزالة فورية لجميع الكاميرات التي تمس الحياة الخاصة، معلنة استعدادها لخوض كل الأشكال النضالية للدفاع عن كرامة النساء والرجال العاملين بالوزارة.

غير أن الموقف الرسمي ظل ملتبساً: المفتش الجهوي نفى مسؤوليته وأحال الجواب على المديرية، التي التزمت الصمت. هذا الصمت ليس إدارياً فحسب، بل هو صمت أخلاقي وسياسي، يعكس كيف تتحول الحساسيات المرتبطة بالكرامة الإنسانية إلى مواضيع محرجة تفضل السلطة تجاهلها بدل مواجهتها.

من الفضيحة إلى سؤال الإصلاح: الإدارة كفضاء إنساني أم جهاز مراقبة؟

البيان النقابي لم يقتصر على التنديد، بل تضمن أيضاً تشخيصاً لأزمة الموارد البشرية داخل القطاع: رحيل متزايد للموظفين عبر التقاعد أو الانتقال، ضعف الوسائل اللوجستيكية، غياب تكوين مستمر، وتدهور الخدمات الاجتماعية.

كل ذلك يجعل من الواقعة مرآة مكبّرة لأزمة أعمق: أزمة الإدارة المغربية في علاقتها بإنسانها. فحين تُختزل الإدارة في المراقبة، يُفقد جوهرها كفضاء للتنمية والمواطنة، وتتحول من جهاز لخدمة العموم إلى جهاز لمراقبته وضبطه.

إن وضع كاميرا في مرحاض النساء ليس حادثاً عرضياً، بل رمزٌ لثقافة مؤسساتية تُقدّم الانضباط على الكرامة، والأمن الإداري على الحرية الفردية.

ولذلك، فإن مواجهة مثل هذه الممارسات لا تتطلب فقط المساءلة القانونية، بل إعادة بناء أخلاقية الإدارة العمومية على قيم الثقة والاحترام والمسؤولية.

الكرامة ليست مطلباً نقابياً بل حق وجودي

في النهاية، تكشف هذه الحادثة أن معركة الكرامة في المغرب ليست معركة الأجور أو الترقية فحسب، بل معركة من أجل إنسانية الفضاء الإداري ذاته. فلا تنمية حقيقية بدون إدارة تحترم أجساد موظفيها، ولا إصلاح ممكناً في ظل سلطة تخاف من مواطنيها إلى حد مراقبتهم في صمتهم.

الكرامة هنا ليست شعاراً نقابياً، بل حق وجودي غير قابل للتفاوض، لأن من يفرّط في حرمة الجسد، يُفقد الدولة معناها قبل أن يفقدها شرعيتها.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button