
* بقلم : ذ. عبد الله بن زنو – مفتش تربوي
لن أدعي أنني أول من يثير هذا النقاش، فقد سال حبر كثير حول موضوع تسقيف سن التوظيف في التعليم. لكن لا بأس أن نعيد طرق هذا الباب، فلعل صوتا جديدا يجد أخيرا أذنا صاغية في محيط من الصمت.
كنت جالسا في إحدى المقاهي، منشغلًا بترتيب تفاصيل مشروع شخصي، حين شدني حديث مجموعة من الشباب الجالسين غير بعيد. كان النقاش محتدما، تتخلله نبرات الغضب واليأس، وموضوعه: “تسقيف سن التوظيف في قطاع التعليم العمومي”.
كان صوت أحدهم يرتجف وهو يقول: “لقد ضاع الحلم بعد سنوات من الاجتهاد والأمل، هل يُعقل أن يتحول قرار حكومي إلى حكم مؤبد يقصي فئات كاملة من أبناء هذا الوطن؟”.
في الحقيقة، لم يكن هذا الحديث معزولًا عن الواقع، بل يجسد صدى قرار صدر قبل سنوات، وقامت الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بتطبيقه حرفيا، دون نقاش سياسي أو مجتمعي حقيقي، ولا اعتراض مؤسسي واضح من ممثلي الامة. وهكذا تم تحديد سقف سن الترشح لمباريات التعليم في 30 سنة فقط، مما أقصى أفواجا من الكفاءات، التي صرفت أعمارها في التحصيل الجامعي والتكوين الذاتي والتطوع في مؤسسات عدة، على أمل ولوج الوظيفة العمومية ذات يوم.
ومع اقتراب الإعلان الجديد عن مناصب التعليم برسم الموسم القادم، تتجدد الجراح، ويشتد الجدل.
فكيف لحكومة تعلن انخراطها في مشروع “الدولة الاجتماعية” أن ترسخ إقصاء ممنهجا لفئة عمرية لا تزال في أوج عطائها؟ كيف يمكن اعتبار هذا القرار الذي لا ندري كيف تمريره قانونا دائما أبدا مؤيدا لا رجعة فيه؟ وأي مبرر سياسي أو تربوي يمكن أن يقنع شبابا أنه لا مكان لهم في مدرسة بلدهم العمومية؟
وفي خضم هذا الجدل حول تسقيف السن، لا يمكن إغفال سؤال الجدوى والفعالية حول الإجازات في التربية، خاصة تلك التي أنشئت خصيصا كمسالك تأهيلية ومهنية لإعداد الأساتذة، مثل “الإجازة في التربية – تخصص التعليم الابتدائي”. فرغم ما أحيط بها من رهانات وتصورات واعدة، فإن واقع مباريات التعليم يبرز مفارقة مقلقة: عدد كبير من خريجي هذه الإجازات لا ينجحون في الاختبارات الكتابية ولا الشفوية، وتسجل نسب نجاح أعلى في صفوف حاملي إجازات أخرى، مثل القانون باللغة العربية، والاقتصاد، والعلوم.
إن هذه الوضعية تدعو إلى وقفة تأمل حقيقية لإعادة تقييم مضمون هذه الإجازات التربوية، وجدولة مخرجاتها، وتحليل مكامن الخلل، سواء على مستوى التكوين النظري أو العملي، أو من حيث أدوات التقويم المعتمدة فيها.
وأقول هذا انطلاقا من تجربة شخصية في مركز لتكوين أساتذة التعليم المزدوج، حيث كان لي شرف تأطير ثلاثة أفواج، ولم أجد من حاملي الإجازة في التربية – تخصص التعليم الابتدائي إلا أربعة طلبة فقط! وهو رقم دال ويثير أكثر من سؤال حول مدى جاذبية هذه الإجازة، ونجاعتها في الميدان، مقارنة بمسالك أخرى أكثر نجاحا في المباريات رغم بعدها التربوي.
لذلك، وقبل أن نتحدث عن تسقيف السن كحل، وجب أولا فتح ورش وطني حول إصلاح الإجازات المهنية في التربية، والحرص على أن تكون تكويناتها أكثر عمقا، وأن تشمل تدريبات ميدانية صارمة، وألا ينظر إليها فقط كمسالك عبور نحو المباراة، بل كمدارس حقيقية لإعداد المدرسات والمدرسين، بجودة وكفاءة ومهنية.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في هذا القرار المجحف الذي فرض منذ سنوات دون تقييم واقعي لآثاره الاجتماعية والاقتصادية. إن الدولة الاجتماعية الحقة، كما تقول بها البرامج الحكومية، لا تقوم على الإقصاء ولا تكرس اللامساواة، بل تفتح أبواب الأمل، وتراكم الكفاءات، وتقدر التجارب.
فإذا كانت نية الحكومة هي ضمان جودة التعليم وخلق الجاذبية، فإن المعيار الحقيقي لا يكمن في عتبة السن، بل في كفاءة المترشح، وحرصه على تطوير ذاته، واستعداده للعطاء.
بل الأجدر أن يُنظر إلى هذه الطاقات المهدورة على أنها فرصة لا تهديد، وعلى أنها كنز بشري يحمل خبرات، يمكن أن يسهم في رفع مردودية المنظومة التربوية، لا أن يقصى بجرة قلم.
أما التخوف من نزيف أطر التعليم الخصوصي نحو العمومي، فليس سببه الانفتاح على التوظيف، بل الفجوة الصادمة في الأجور والحقوق بين القطاعين. فكيف يعقل أن أستاذا قضى عشرين سنة في القسم يتقاضى أقل من نصف ما يتقاضاه زميله في القطاع العمومي؟ وهل من العدالة الاجتماعية أن يطلب من أستاذ الخصوصي أن يقدم الجودة وهو نفسه ضحية الهشاشة والتهميش؟
لذلك، فالحل لا يكمن في تسقيف السن، بل في تسقيف الظلم.
والأجدر بالحكومة أن تفتح ورشا وطنيا لإعادة هيكلة العلاقة بين التعليم العمومي والخصوصي، وأن توفر إطارا موحدا لحماية الحقوق، وتثمين الكفاءات، وتشجيع الاستقرار.
فقط بهذا المنظور العادل، يمكن للمدرسة الوطنية يشقيها العمومي والخصوصي أن تنهض، وللأمل أن يعود إلى قلوب آلالاف من أبناء الوطن وذلك بترميم الثقة، وتفعيل روح الدولة الاجتماعية.