
(كش بريس/التحرير)ـ في إعلانٍ جديد يعيد طرح سؤال مصداقية جائزة نوبل للسلام، منحت لجنة نوبل النرويجية هذا العام الجائزة لزعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، تقديراً لما وصفته بـ”جهودها من أجل انتقالٍ عادل وسلمي من نظامٍ ديكتاتوري إلى آخر ديمقراطي”.
لكن خلف الصياغة الدبلوماسية لهذا التتويج، يختبئ جدلٌ سياسي وأخلاقي عميق حول طبيعة الجائزة نفسها: هل ما تزال نوبل أداة لتكريم النضال الإنساني من أجل السلام، أم تحوّلت إلى رمزٍ سياسي ناعم لتزكية اختيارات القوى الكبرى في مناطق التوتر؟
من المثال الأخلاقي إلى التوظيف الرمزي
منذ تأسيسها، كانت جائزة نوبل للسلام تعبيراً عن الضمير الإنساني الكوني، كما أرادها ألفريد نوبل في وصيته، أن تُمنح لمن يسهم في تقليص العنف ونشر روح التقارب بين الشعوب. غير أن تحوّلها التدريجي إلى منصة جيوسياسية جعلها أحياناً تميل إلى تمجيد رموز المعارضة السياسية المتحالفة مع الرؤية الغربية للعالم، أكثر من تكريم من يعملون فعلاً في الميدان من أجل المصالحة أو العدالة.
في هذا السياق، يُطرح سؤال منطقي بسيط لكنه جوهري:
هل يمكن لجائزة تُمنح من داخل منظومةٍ غربيةٍ محددة القيم والتوجهات أن تدّعي الحياد الأخلاقي وهي تُكرّم معارضة سياسية في بلدٍ مازال يعيش تحت نزاعٍ داخلي معقّد؟
وهل التحوّل “السلمي” الذي تُكافئه اللجنة هو مشروعٌ وطني أم تصوّرٌ دبلوماسي خارجي لانتقالٍ يناسب موازين القوى الدولية؟
المفارقة بين المعنى والواقع
حين تُمنح نوبل اليوم لشخصيةٍ سياسية في لحظةٍ تتفجّر فيها النزاعات من غزة إلى أوكرانيا ومن السودان إلى هايتي، تبدو الجائزة وكأنها تهرب من مواجهة جوهر المأساة الإنسانية نحو رموزٍ قابلة للتسويق الإعلامي.
المفارقة هنا تكمن في أن اللجنة تُكافئ “الانتقال الديمقراطي”، بينما تتغاضى عن كوارث الإبادة والاحتلال والتواطؤ الدولي مع العنف المنظّم.
فأين هو “الحد من الجيوش” الذي أوصى به نوبل نفسه؟
وأين “السلام بين الشعوب” في عالمٍ يتفتت تحت وطأة الحروب والهيمنة؟
من نقد الشكل إلى نقد الفعل
إن الإشكال في قرارات لجنة نوبل لا يكمن فقط في الاختيار السياسي لأسماء بعينها، بل في التناقض المفهومي بين “السلام” كقيمة كونية و”السلام” كأداة سياسية. فحين تُختزل الجائزة في رمزٍ نخبوي، تفقد جوهرها الإنساني وتتراجع إلى مستوى الديبلوماسية الرمزية التي تبرّر النظام الدولي بدل أن تُسائله.
بهذا المعنى، تصبح نوبل اليوم مرآةً لعطب الضمير العالمي، أكثر مما هي تكريمٌ له. فهي تُكرّم الشجاعة حين تكون منسجمة مع السردية الغربية، وتتجاهلها حين تصدر من شعوبٍ تعيش خارج دوائر النفوذ، كغزة أو اليمن أو الكونغو.
إن منح نوبل هذا العام لماريا كورينا ماتشادو لا يُعدّ خطأً في التقدير بقدر ما هو مؤشر على أزمة في الفهم الفلسفي للسلام نفسه. فالسلام ليس انتقالاً سياسياً من ديكتاتورية إلى ديمقراطية بالمعنى الشكلي، بل هو تحرّر الإنسان من الخوف والعنف والهيمنة.
وما لم تستعد اللجنة هذا الوعي العميق، ستظل الجائزة محكومةً بمنطق التمثيل لا الحقيقة، وبالرمز لا بالفعل.
فربما آن الأوان لأن نعيد طرح السؤال المؤلم:
هل ما زالت نوبل للسلام جائزةً للسلام، أم أصبحت أداة لتجميل العنف بلغة أخلاقية؟