
نحو أفق مشترك في زمن تآكل الشرعيات
( من وحي ما راج في بعض فعاليات الإحتفاء بشهداء التحرير والوحدة والديموقراطية)
لا أنطلق في مقاربتي من الأشخاص، سواء قدّموا شهادات شفوية أو وثائق مكتوبة، بقدر ما أنصرف إلى فحص المحتوى، ونقد التحليل والتأويل وأنماط التوظيف. ومن هذا المنطلق، أُثمّن كل مبادرة تروم إعادة قراءة الوقائع، وأدعو إلى التوافق حول إعادة صياغة المشترك المفيد فيها، مع الإبقاء على الحقيقة ضمن أفقها الطبيعي المرتبط باللايقين والنسبيّة.
إن ما يقوله الشهود يُؤخذ على علّته؛ لا بوصفه حقيقة مكتملة، بل باعتباره مادة خام قابلة للتفكيك. فكثير من الوقائع المُغيَّبة، وبصرف النظر عن الشك المشروع في أصحابها—خصوصًا حين يكون الشاهد طرفًا خصمًا أو عدوًا—يظلّ البوح خارج السياق الأصلي، ومع استحضار المسافة الزمنية، واعتبار الحق في النسيان أو الحق في التوبة بعد الندم، عنصرًا ذا فائدة تحليلية. فهو، على الأقل، يساهم في التشكيك المنتج وفي تفكيك أنصاف الحقائق التي تصنع سرديات مكتملة ظاهريًا ومضلِّلة في عمقها.
من هنا، تبرز أهمية تجميع المعطيات في إطار حفظ الذاكرة، لا بقصد تثبيت حقيقة رسمية، بل لتوفير رصيد نقدي يسمح بإعادة المساءلة. ويبقى، في نهاية المطاف، للمؤرخ أو القاضي دورهما الجوهري: دور المساءلة، والتمحيص، والنقد، لا دور التلقّي أو التصديق.
من هنا لا يسعني إلا أن أذكر بضرورة استكمال سلسلة تأسيس منتدى ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية ، وتنبثق هذه المبادرة في سياق تاريخي خاص، يتسم بتآكل الشرعيات التقليدية، وبتنامي محاولات فردية وجماعية لـإعادة تأثيث الشرعية عبر السرد بدل بنائها عبر المساءلة والمسؤولية. ففي هذا الزمن، لم تعد الذاكرة مجرد وعاء للماضي، بل تحولت إلى رأسمال رمزي يُستثمر لتبرير المواقع، وتحصين النفوذ، وإعادة توزيع الأدوار داخل الحقلين السياسي والأمني.
أولًا: ضمير الذاكرة بين الأخلاق والمعرفة
إن مفهوم ضمير الذاكرة لا يحيل على ذاكرة بريئة أو متعالية، بل على ممارسة نقدية وأخلاقية تُدرك أن الذاكرة انتقائية بطبيعتها، وأن السرد هو دائمًا فعل اختيار وإقصاء. فضمير الذاكرة هو ما يمنع تحويل المعاناة إلى أداة، والشهادة إلى سلطة، والوثيقة إلى ذريعة. إنه أفق يربط بين التذكر والمسؤولية، وبين الاعتراف والحد من التوظيف.
ثانيًا: حوكمة السرديات الأمنية كترشيد لا كتحكم
لا تعني حوكمة السرديات الأمنية إنتاج خطاب أمني جديد، ولا تعميم سردية رسمية محسّنة، بل تعني مساءلة شروط إنتاج السرد الأمني، وطرق تداوله، وحدود تأثيره في الوعي الجماعي. فالأمن، حين يفقد بعده المؤسسي النقدي، يتحول إلى رواية مغلقة؛ وحين تُطلق السردية الأمنية دون ضوابط معرفية وأخلاقية، تصبح أداة لإعادة إنتاج الخوف بدل إنتاج الطمأنينة.
- إلى الفاعلين الأمنيين: من شرعية القوة إلى شرعية المعنى
إن التحدي المطروح أمام الفاعل الأمني اليوم لا يكمن في الدفاع عن الماضي، ولا في تبرير الإجراءات، بل في استعادة الثقة عبر المعنى. فالسردية الأمنية، حين تُبنى على الإنكار أو الاكتمال الوهمي، تُنتج هشاشة رمزية أخطر من أي تهديد خارجي.
إن الانخراط في ضمير الذاكرة لا يعني الإدانة الذاتية، بل يعني القبول بأن الأمن، لكي يكون مستدامًا، يحتاج إلى ذاكرة مؤسساتية قابلة للمساءلة، وإلى استعداد للاعتراف بالتحولات، لا الاكتفاء بتأثيث شرعية مستهلكة بخطاب الانضباط والخطر. - إلى الفاعلين الحقوقيين: من احتكار الضحية إلى أفق المساءلة المشتركة
لقد أفرزت تحولات الحقل الحقوقي ميلًا متزايدًا إلى تقديس الشهادة وتحويل الضحية إلى مصدر شرعية نهائي. غير أن ضمير الذاكرة يقتضي التمييز بين الإنصاف والتوظيف، وبين الحفظ والمزايدة.
إن الدفاع عن الحقوق لا يكتمل دون تحرير الذاكرة من الاحتكار، ودون وعي بأن السردية الحقوقية نفسها قد تتحول، دون نقد ذاتي، إلى أداة لإعادة إنتاج الاستقطاب، أو لتأثيث شرعية أخلاقية معزولة عن شروط الفعل السياسي والمؤسسي. - إلى الأكاديميين: من وصف الوقائع إلى مساءلة أنظمة السرد
يقع على عاتق الفاعل الأكاديمي اليوم تجاوز الاكتفاء بالوصف أو التوثيق، نحو تحليل أنظمة السرد ذاتها: من ينتج الرواية؟ بأي أدوات؟ ولصالح أي تصور للشرعية؟
فالأكاديمي، في هذا السياق، مدعو إلى مقاومة إغراء الحياد السلبي، والانخراط في بناء معرفة نقدية تُفكك التداخل بين الأمن والذاكرة والسلطة، دون السقوط في التبرير أو الإدانة المسبقة.
أفق المبادرة: من تأثيث الشرعية إلى بنائها
إن هذه المبادرة لا تسعى إلى ملء فراغ الشرعية بسرديات جديدة، بل إلى كشف آليات التأثيث الرمزي للشرعية حين تتآكل، وإلى اقتراح أفق بديل قوامه:
ذاكرة محفوظة لا مُقدَّسة
سرديات مُساءَلة لا مُحتكِرة
أمن مؤسسي يُنتج الطمأنينة لا الخوف
ذلك هو أفق ضمير الذاكرة وحوكمة السرديات الأمنية: ليس كبرنامج جاهز، بل كمسار مفتوح، يتقاطع فيه الأمني والحقوقي والأكاديمي، كلٌّ من موقعه، حول سؤال واحد: كيف نبني شرعية مستدامة في زمن لم يعد فيه السرد وحده كافيًا؟





