
ـ المغرب عند مفترق الصناعة العالمية ـ
(كش بريس/التحرير)ـ في أقصى الشمال الشرقي من المغرب، حيث كانت الجغرافيا لوقت طويل حبيسة الهامش والنسيان، بدأت ملامح مشهد اقتصادي جديد تتشكل. فشركة “Yongsheng Rubber” الصينية، إحدى كبريات مؤسسات صناعة الإطارات في آسيا، أعلنت عن إطلاق أول مصنع لها خارج الصين في المنطقة الحرة بيتويا بإقليم الدريوش، باستثمار يبلغ 6.2 مليارات درهم (حوالي 675 مليون دولار).
المشروع، في بعده الظاهر، استثمار صناعي ضخم يعكس ثقة الصين في البنية التحتية المغربية، وفي موقعه الجيوستراتيجي الفريد عند ملتقى طرق التجارة بين أوروبا وأفريقيا والأمريكيتين. لكن في عمقه غير المعلن، هو جزء من معمار جديد للعولمة الصناعية، تتجه فيه بكين نحو نقل مصانعها من الداخل الآسيوي إلى ضفاف المتوسط والأطلسي، بحثًا عن منافذ جديدة للأسواق، ومساحات آمنة لتخفيف ضغط الإنتاج المحلي المتضخم.
يُنتظر أن ينتج المصنع المغربي 6 ملايين إطار سنويًا في مرحلته الأولى، ليصل خلال ثلاث سنوات إلى 12 مليونًا، مع اعتماد تكنولوجيا متقدمة في البحث والتطوير. ورغم أن هذا الرقم يبدو ضخماً من حيث الأثر الصناعي، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في طبيعة القيمة المضافة التي سيجنيها المغرب: هل ستبقى هذه التجربة مجرد تصنيع بالوكالة داخل أراضيه؟ أم أنها ستتحول إلى مدرسة للتصنيع المحلي ونقل المعرفة إلى الأجيال المغربية الجديدة؟
اختيار إقليم الدريوش لم يأتِ عبثاً. فالقرب من ميناء الناظور غرب المتوسط يمنح المشروع بعدًا لوجستيًا استراتيجيًا، يختصر المسافات بين خطوط الإمداد الآسيوية والأسواق الأوروبية. لكن الأهم أن هذا المشروع يأتي في لحظة تحوّل في هندسة التنمية المغربية، حيث تسعى الدولة إلى خلق توازن جديد بين المركز والجهات، وتوزيع الاستثمار بعيدًا عن محور الدار البيضاء–طنجة التقليدي.
من جهة أخرى، يبرز المشروع أيضًا كحلقة في سلسلة استراتيجية صينية كبرى تمتد من السعودية إلى المغرب، بعد إعلان الشركة نفسها في دجنبر 2024 عن إنشاء مجمع صناعي في جيزان بطاقة إنتاجية تصل إلى 17 مليون إطار سنويًا وباستثمار 10.4 مليارات دولار. إنها إذن خريطة صناعية عابرة للقارات، تنسج خيوطها بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، في إطار ما يمكن تسميته بـ**“دبلوماسية الإطارات”**: سياسة ناعمة توظف الاستثمار الصناعي لإعادة رسم خرائط النفوذ التجاري.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال الوجه الآخر للمشهد. فالتجارب السابقة في استقطاب المصانع الأجنبية بيّنت أن الاستثمار لا يعني بالضرورة التنمية، وأن توطين الصناعة لا يكتمل ما لم يُواكب بسياسات حقيقية لنقل التكنولوجيا، وتأهيل الكفاءات المحلية، ومأسسة الشراكة على أسس تضمن المردودية الوطنية لا التبعية الإنتاجية.
تؤكد المعطيات الأولية أن الشركة الصينية أطلقت برنامجًا لتكوين مترجمين عرب يخضعون لتدريب في مدينة Dongying قبل انتقالهم إلى المغرب، وهي مبادرة مهمة لكنها رمزية مقارنة بحجم المشروع. فالمطلوب اليوم ليس فقط ترجمة اللغة، بل ترجمة الخبرة الصناعية نفسها إلى واقع مغربي قادر على إنتاج المعرفة، لا مجرد استقبالها.
في جوهر الأمر، يعيد هذا المشروع طرح سؤال السيادة الاقتصادية في زمن العولمة الجديدة: هل يمكن لدولة نامية أن تستفيد من تدفق الرساميل الأجنبية دون أن تتحول إلى مجرد ورشة خارجية؟ أم أن الرهان الحقيقي هو بناء منظومة وطنية قادرة على التفاوض والتأثير في شروط الشراكة؟
إن المغرب، بانفتاحه على الاستثمارات الآسيوية، لا يغامر بمستقبله الصناعي، بل يختبر حدود قدرته على التحكّم في مسار التنمية. بين جاذبية الاستثمار الأجنبي وضمان المصلحة الوطنية، يقف البلد اليوم في منعطف حساس: إما أن يكون هذا المصنع رمزًا لبداية استقلال صناعي ذكي، أو حلقة جديدة في اقتصاد معولم يحكمه الآخرون باسم الكفاءة والإنتاج.
إن مشروع “يونغشنغ” ليس مجرد مصنع للإطارات، بل مرآة لعصر اقتصادي جديد، تُعاد فيه صياغة خرائط القوة بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب.
وحدها الدول التي تدرك أن الاستثمار ليس غاية بل وسيلة لبناء المعرفة، ستكون قادرة على تحويل “العولمة الاقتصادية” من قدر مفروض إلى مشروع وطني واعٍ بالذات.
المغرب اليوم، في قلب هذا الرهان.