‏آخر المستجداتفنون وثقافة

من أومبريا إلى الذاكرة: إثنوغرافيا تنصت لصوت العْرُوبي

(كش بريس/التحرير)ـ بروحٍ تصغي أكثر مما تشرح، وتكتب بإنصاتٍ فلسفي لما يقوله الهامش حين يُمنح حق الكلام، صدر عن دار الثقافة للنشر والتوزيع ومجلس الجالية المغربية بالخارج كتاب «صوت لْعْرُوبية.. الموسيقى، الشعر والإحساس بالرجولة لدى مغاربة الهجرة الإيطالية في أومبريا»، في ترجمة عربية أنجزها الشاعر والمترجم نور الدين الزويتين، حاملاً النص من لغته الأصلية إلى أفقٍ لغوي جديد دون أن يفقد نبرته الأولى.

الكتاب من تأليف الباحثة أليساندرا تشوتشي، أستاذة بجامعة كولومبيا بنيويورك، التي جعلت من الموسيقى المغربية مدخلاً معرفياً إلى فهم الذات المهاجرة، لا بوصفها جسداً عابراً للجغرافيا، بل كصوتٍ يعيد تشكيل معناه في المنفى. وقدّم لهذا العمل عضو أكاديمية المملكة المغربية حسن رشيق، واصفاً إياه بـ«إثنوغرافيا ديناميكية» لا تكتفي بوصف موضوعها، بل تحترم الأصوات التي تنصت إليها وتعيدها إلى الوجود. إثنوغرافيا تبدأ بصوت عبد الإله، صوت سيعود مراراً، كما لو كان خيطاً خفياً يشدّ سرديات المهاجرين في أومبريا إلى أصلها الإنساني.

في هذا العمل، لا تُعامل “العْرُوبية” كمفهوم جاهز أو هوية صمّاء، بل كسؤال مفتوح يُمنح فيه الكلام لمحاورين متعددين في المغرب وإيطاليا، لا كمخبرين عابرين، بل كذواتٍ تتحدد بسيرها الذاتية ومواقعها الاجتماعية. وتزداد الكتابة عمقاً حين لا تكتفي بنقل الكلام، بل تستعيد سياقاته الحيّة: البيت، المقهى، السوق، الأمكنة التي يتكثف فيها الإحساس بالذات، ويصير الصوت ذاكرةً وموقفاً.

ويؤكد حسن رشيق أن الصوت المركزي في الكتاب هو صوتٌ طالما همّشته السرديات الكبرى للهوية الوطنية: صوت “العْروبي”، المثقل بالصور النمطية والاحتقار الرمزي. غير أن أبناء السهول والهضاب الأطلسية، كما تكشف الدراسة، يعيدون بناء هذا الصوت من داخل الفخر والانتماء، ويتساءلون: ماذا يعني أن تكون “عْروبياً”؟ أي تمثلات تُرفض؟ وأي تصورات جديدة تُبنى للرجولة والكرامة والذات؟

ويزداد النص ثراء حين يعبر من الميدان إلى الأغنية، حيث تُحلَّل نصوص شعبية بوصفها خرائط أخلاقية للرجولة، واختبارات للشجاعة والاستقلال، خصوصاً في سياق “الحريك”، حيث تصير الهجرة فعلاً وجودياً لا مجرد انتقال مكاني.

لهذا، يوصي حسن رشيق بقراءة الكتاب لكل من يهتم بالأصوات المهمشة، وبالطريقة التي يدرك بها الفاعلون تهميشهم، ويعيدون امتلاك ثقافاتهم، أغانيهم، رقصاتهم، ويحوّلونها من علامات نقص إلى موارد معنى ورغبة؛ ولكل المهتمين بالإثنوغرافيا متعددة الأصوات.

أما أليساندرا تشوتشي، فتختزل مقصد الكتاب في ربط ممارسات الاستماع بكيفية تجلّي “العْروبية” في لحظات التواصل اليومي، في المقاهي والبيوت والشوارع والأسواق والسيارات وحفلات الزواج والاجتماعات النقابية، هنا وهناك، الآن وآنداك. كتابٌ يسعى إلى خلخلة الفهم الخطي للهجرة، وإلى جمع اللحظات والذكريات واللقاءات، لا ليحكي قصة انتقال، بل ليكشف ما يعنيه حقاً أن يكون للهوية صوت… صوت لْعْرُوبية.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button