
(كش بريس/التحرير)ـ في خطوة تُجسِّد التحوّل المنهجي في مقاربة الدولة المغربية لقضايا الاستثمار والتنمية المجالية، أطلقت الحكومة، عبر وزارة الاستثمار والتقائية وتقييم السياسات العمومية، نظاماً جديداً لدعم المقاولات الصغيرة جدًا والصغرى والمتوسطة، بموجب المرسوم رقم 2.25.342، وذلك في سياق تنزيل الميثاق الوطني الجديد للاستثمار.
الغاية المعلنة هي تحفيز خلق فرص الشغل المستدامة، وتقليص الفوارق الترابية، وتعزيز دينامية القطاع الخاص باعتباره رافعة أساسية للنمو الاقتصادي.
ويأتي هذا النظام تتويجاً للتوجيهات الملكية الواضحة التي تضمنها خطاب الملك محمد السادس بتاريخ 14 أكتوبر 2022، والذي دعا فيه إلى جعل “الاستثمار المنتج في صلب السياسات العمومية” واعتباره مدخلاً لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وخلق الثروة وفرص العمل.
فلسفة النظام الجديد من الدعم المالي إلى تمكين المقاولة:
يمثل هذا النظام تحوّلاً في منطق الدعم العمومي، إذ لم يعد قائماً على المقاربة الريعية أو الاستثنائية، بل على مبدأي الاستحقاق والمردودية الاقتصادية.
فالدعم موجه للمقاولات المنشأة حديثاً (أقل من ثلاث سنوات) والمقاولات القائمة التي تحترم شروط الأهلية، على أن تكون مشاريعها منسجمة مع الأنشطة المؤهلة ذات القيمة المضافة.
كما يستفيد من النظام كل شخص اعتباري مغربي يحقق رقم معاملات سنوي بين 1 و200 مليون درهم، مع استثناء المقاولات التي تملك فيها شركات كبرى أكثر من 25% من رأس المال، ضماناً لاستهداف فعلي للنسيج المقاولاتي الصغير والمتوسط.
هندسة الدعم.. ثلاث منح موجهة ومترابطة:
يرتكز النظام على ثلاث منح يمكن جمعها بما لا يتجاوز 30% من قيمة الاستثمار الإجمالية، وهي: منحة التشغيل (5 إلى 10%) تشجع إحداث مناصب شغل قارة تستمر على الأقل 18 شهراً، مع تسجيل الأجراء في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. والمنحة الترابية (10 إلى 15%) لتقوية جاذبية الأقاليم والعمالات الأقل استفادة من الاستثمارات. والمنحة القطاعية (حتى 10%) الموجهة للأنشطة ذات الأولوية الوطنية أو الجهوية.
وتُصرف هذه المنح بناءً على اتفاقيات استثمارية دقيقة تُبرم بين الدولة والمستثمرين، بعد موافقة اللجان الجهوية الموحدة للاستثمار، بما يعزز الحكامة التشاركية واللامركزية الفعلية في القرار الاستثماري.
الأهداف الاستراتيجية/ الاستثمار كآلية للعدالة الاقتصادية:
يندرج هذا النظام ضمن تصور استراتيجي يروم: رفع حصة الاستثمار الخاص إلى ثلثي الاستثمار الإجمالي بحلول 2035، وخلق 500 ألف منصب شغل بين 2022 و2026، وتعبئة 550 مليار درهم من الاستثمارات المنتجة.
بهذا، يتحول الاستثمار إلى أداة لإعادة التوازن المجالي، عبر تشجيع المقاولات الناشئة في المناطق الأقل نمواً، وإدماج الأنشطة غير المهيكلة في الدورة الاقتصادية الرسمية، ما يعزز عدالة توزيع الثروة وفرص التنمية.
مقاربة الأولويات بين الاقتصاد الأخضر والرقمي والمجتمعي:
تمنح الدولة الأفضلية للقطاعات التي تجمع بين الجدوى الاقتصادية والاستدامة البيئية، وتشمل: الصناعات التحويلية والغذائية لتثمين الموارد المحلية، والصناعات عالية القيمة كالكيماويات، النسيج، السيارات، الطيران، والطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر، والأنشطة الرقمية والتكنولوجية، والمشاريع الثقافية والسياحية والإبداعية، والمبادرات ذات الأثر الاجتماعي في الأقاليم المصنفة فئة “أ” و“ب”.
وتحصل المشاريع المندرجة ضمن هذه القطاعات على منحة إضافية بنسبة 10%، تأكيداً لتوجه الدولة نحو اقتصاد المعرفة والاستدامة.
من الميثاق إلى التفعيل.. تحدي التنسيق والنجاعة:
رغم وجاهة هذا الإطار التحفيزي الجديد، يظل الرهان الأكبر مؤسساتياً بامتياز: كيف ستضمن وزارة الاستثمار التنسيق العملي بين اللجان الجهوية، والمراكز الجهوية للاستثمار، والمصالح المالية والجبائية؟ ووهل ستتمكن من تحويل الدعم إلى رافعة حقيقية لتقوية النسيج المقاولاتي المحلي، بدل أن يتحول إلى مجرد إجراء إداري محدود الأثر؟
النجاح، هنا، رهين بقدرة الحكومة على إرساء آليات تتبع وتقييم دائمة، وربط الدعم العمومي بمؤشرات أداء واضحة (عدد المناصب، حجم الصادرات، الاندماج في سلاسل القيمة)، أي بانتقال فعلي من منطق “التحفيز” إلى منطق “النتائج”.
بهذا النظام، يؤسس المغرب لمرحلة جديدة في علاقة الدولة بالمقاولة، قوامها الثقة المشروطة بالمساءلة، والتحفيز المبني على الجدوى.
إنه انتقال من سياسة الدعم الكمي إلى سياسة النوع والأثر، ومن منطق “المبادرات القطاعية المتفرقة” إلى رؤية استثمارية موحدة ومجالية، تضع المقاولات الصغرى والمتوسطة في قلب مشروع النهوض الاقتصادي الوطني.





