لحظة تفكير

أحمد الشهاوي: الجهل يقُود إلى الفوضى

لا ينبغى أن تنقادَ وراء قانُون العُرف، حيثُ الأعرافُ والتقاليد البالية، الممزُوجة بالخُرافات قد أخَّرتْنا كثيرًا، وعليك أن تأخذ منها ما يُوائم رُؤاك، ويُوافق حريتك – فقط – فى القول والفعل.

وتبتعد عما صار لنا كأنه ميراثٌ مُقدَّسٌ، لا ينبغى النظر إليه، ومُساءلته، ومُراجعته، وتصحيحه، واختيار ما يصلح منه، إذْ فى العُرف الكثير من الطالح والخُرافىِّ، الذى إذا وُضِع فى ميزان العقل، سقطت كفتا الميزان من هوْل ما رأت، ومن فرْط ما حوَتْ مما هو ضار، ومُؤذٍ ودخيل ولا يصلح لشىءٍ.

والإنسان الذى يجعل له مُمثلاً أو نائبًا عنه، لم يعُد حرًّا بالضرُورة، لأنَّ حُريته تنبع من فهمه لإرادة ذاته، ومهما يكُن من قُرب النائب منَّا، فهو أبدًا لن يكون مُمثلاً جيدًا لذواتنا، إذْ سيظلُّ فى النهاية نائبًا ومُمثلاً، يُقدِّم طرحه هو ورُؤاه واعتقاده، ويُعبِّر عما يخدم مصالحه فى الحياة.

إنه يدٌ ثالثةٌ، ليست فى جسدك، لا تشعر، ولا تحس بما أنتَ فيه، ولا تُدرك دواخلك، وقديمًا قال الإمام الشافعى (150 – 204 هـ / 767 – 819 م): «ما حكَّ جلدك مثل ظُفرك.. فتول أنتَ جميع أمرك.. وإذا قصدتَ لحاجةٍ.. فاقصد لمُعترفٍ بقدرك». ولا تقُل لى ثانيةً إنك غير ناضجٍ بالدرجة الكافية لتكون حُرًّا، لأن هذا التعبير مُهينٌ ووضيعٌ، واحتقره الفلاسفة على مدار العصور، ولكن الساسة كثيرًا ما يستخدمُونه كمُقدماتٍ لفرض استبدادهم وقوانينهم ودساتيرهم المُقيدة والمُعيقة والمانعة للحريات، ومن ثم تكونُ هناك حُجة مُصلتة على الرقاب، حيث لا حرية ستأتى أبدًا، أو ستظهر فى الأفق، لأنها ليست كأس سُمٍّ على الساسة أن يُبعدوها عن أفواه الشُّعوب، كى لا تتجرعها فتذهب نحو حتفها.

وكلنا مع إيمانويل كانط (22 من إبريل 1724 م – 12 من فبراير 1804م) لا نرتاح لهذه العبارة التى – للأسف – يستعملها العقلاء أيضًا من القادة «ليس الشعب ناضجًا من أجل الحرية».

إننا فى الحرية لا نلجأ إلى الغير، ولا نعتمد على آخر، رايتنا يدانا، وكلامنا لساننا، حين يعبِّر عن دواخلنا. فلا تَبْنِ يقينًا على جهلٍ، إذْ عدم المعرفة دائمًا ما يقُود إلى الفوضى.

وعلى الإنسان ألا يقبل أن يكون فى يد أحدٍ، لأنه بذلك سيصير أداةً وملكيَّةً فى يد هذا «الأحد»، أيًّا ما كان مكانه ومكانته، لأنه لم يعد هناك مكان فى هذا الزمان للإنسان غير الحر، إذْ ألغيتْ العُبودية شكلاً، لكنَّ إلغاءها لم يمنع التسلُّط، وبسط الملكية على الآخر، والاستحواذ عليه، وسلبه إرادته، وسرقة رُوحه، واختطاف عقله، وهو عندى أشدُّ أنواع العُبُودية، لأنَّ الحُرَّ هو القادر على أن يقُود ذاته فى المُجتمع الذى يعيش فيه، ويتحمَّل مسؤولية كلمته وقراره، ويعرف أفق وحدُود سلوكه مع ذاته والآخر.

انتهى زمانُ السيد والعبد، وأيضًا لا ينبغى أن نسمح بوجُود عِتقٍ شكلىٍّ، الذى هو أكثر إثمًا وجُرمًا فى حق الإنسان وما نراه فى الجماعات المُغلقة، خُصُوصًا الدينية منها، والتى يتم التربية فيها على «السمع والطاعة العمياء»، هى عُبوديةٌ ورِقٌّ، إذْ يذهب الإنسان طواعيةً نحو سيِّده، لا ليُعلمه الحرية، ولكن ليُمارس عليه الاسترقاق، ولذا سنجد العبد فى هذه الحالة يُنفِّذ الأوامر التى تُلقى على مسامعه، إذْ هى صادرةٌ من فوق «من السيد إلى العبد»، ويمكن أن يكون هذا العبد طبيبًا، كاتبًا، صحفيًّا، مُهندسًا، وزيرًا، أستاذًا جامعيًّا، مُحاميًا، صيدلانيًّا إلى آخره من الوظائف المُهمة والمرمُوقة فى المُجتمع، لأن العبد هنا رغم امتلائه العلمى فهو فارغٌ من الحرية التى هى العقل والإرادة.

وما يفعله المرء يخضعُ – بالضرُورة الحتمية – لإرادته، التى تعنى لى ثقافته ورُوحه وعقله وما يُؤمن به، تعنى إجمالاً حُريته، تلك التى تنطلق منه، ويبدأ ساعيًا إلى بناء جُملةٍ جديدةٍ فى كتاب نفسه، التى هى جزءٌ من كتاب الحياة.

فلا تُوجد حُريَّة مشرُوطة، لأنها ستكون رُبع أو نصف أو ثلاثة أرباع الحرية، والإنسان الحُر لا يقبل بالشرُوط الموضُوعة سلفًا، وكونه يرفض الاشتراطات، لا يعنى أبدًا أنه عندما يكُون حرًّا سيضرُّ بالمجتمع والمُحيطين به، لأن الحُر يعرف كيف يعيش حريته دون أن يُسىء إلى الآخرين، أو يصدم المجتمع.

ولا يمكن أن تكون حُرًّا فى مُجتمعٍ يفتقد الحرية، بمعنى أن يكون المُحيطون بك أحرارًا، كى تشعر وتستمع بحريتك، إذْ حريتك مع خوف الآخرين، ستنتج بالضرُورة تشوهًا ومسْخًا، و«حرية ظاهرية» لا جُذُور لها، ولا أساس مبنى على قيمٍ مبدئيةٍ تتعلق بإرادة الفعل الحر.

فحرية الخير لا تنفيك أو تُقصيك، لكنها تسندك، وتشد من أزرك، وتجعلك فى ثقةٍ مما أنت مُقدم عليه، إذْ الحرية هى الابتكار والخلق الجديد، وتقديم الإضافة التى يفتقدها الإنسان والمجتمع معًا.

ومثلما نُعطى الحرية للبذرة؛ لأن تشُقَّ الأرض، وتخرج نباتًا، له حرية النمو والتنفس والإثمار، فما الإنسان إلا هذه البذرة التى تنمُو فى مناخٍ يُقدِّس الحرية، ويُؤمن بها، جاعلاً إياها عقيدةً لا يُمكن الكُفر بها، لمُجرد حُدوث تغيُّر فى الساسة، والأنظمة، والكون أساسًا مبنى على الحرية، حرية الفعل، ولذا حفظ من الفناء.

أحلم ألا تكون الحرية مُجرد كلمةٍ جميلةٍ ومُهمة فى اللغة، أو معنى عميق فى الفلسفة والحضارة، بل أن يكون التجلى للحرية، هو الذى يحكم، بعيدًا عن ترديد مُفردة الاستحالة، أو معنى أن الشعب غيرُ ناضجٍ لاستقبال الحرية.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button