فنون وثقافةلحظة تفكير

د مولاي علي الخامري: من تداعيات معركة “طوفان الأقصى” نماذج من مشاركة ومساهمة الشعر في بناء وعي الأمة

الحديث في هذا المقال سينصب على جهد الشعراء الأمناء الذين مثلوا الجزء الإبداعي من ضمير الأمة في معركة (طوفان الأقصى ) وفي بقية المعارك على مسار التاريخ العربي والإسلامي ، أما أولئك الذين تنصلوا وهرولوا للناحية الأخرى تحت مزاعم واختلاقات واهية فلم يكن ( شعرهم ) يوما يغريني ، ولا أجد إحساس الالتفات إليه ، ولا يستحق جهد القراءة والتحليل والمتابعة ، لأن الشعر في نظري ليس لغة فقط ، وإنما هو خليط من المشاعر والفِطَر ومضامين التاريخ والفكر والحضارة بامتداداتها الزمنية والثقافية المتراكمة .

أصحاب الاتجاه الخانع وَقَّفُوا ( شعرهم ) على هواجسهم المتقلبة ، ومطالبهم الدنيوية الزائلة ، وقد تحول الشعر عند معظمهم إلى وسيلة لبث سموم الذات السلبية المتطايرة كالشرارة الحارقة نتيجة الأمراض والهلوسات والأوضاع النفسية والاجتماعية المتفشية فيهم ، ولعل ما قلناه سيقودنا إلى الدوافع الحقيقية لانجرار الفئة القوي ، واختيارها للخط المناهض كلما تعلق الأمر بكل ما يمت إلى الأمة بصلة ، متوهمين أنهم يقفون مع الطرف القوي المتحضر الذي سيمكنهم من هوسهم في الشهرة والمال والحماية من الآفات ، وسيوفر لهم الإنقاذ السريع ، وسينتشلهم من مآزيقهم المتعددة والمتنوعة بسلام ، وسيسهل عليهم تبديل جلدتهم وهويتهم بيسر وقبول وترحيب ، وسيحتضنهم بملء اليد ودفئها ، وبمد الذراع وسَعَةِ حَدَبِه على الأكتاف…… هيهات هيهات فلن يحصلوا على ما توهموه ، ولن يحوزوا إلا على الأسوأ المخالف لتطلعاتهم ، وعندنا شواهد كثيرة من التاريخ ، ولن يكذب علينا في مصير مَن يعيش زائفا ومزيفا بيننا .

في الشعر العربي هناك أسماء سخرت شعرها للحديث عن الأمة ، وعن مآسيها أو أفراحها بوعي المنتمي الحريص على الوثوب إلى الأمام ، ودبجت أنساقا فنية تتناسب مع الأحداث الواقعية ، وتربط حلقات الزمان المختلفة ببعضها البعض ، ويعتبر الشاعر اليمني عبد الله البرذوني ( 1929 \ 1999 ) مثالا واضحا على النسق الشعري المقصود ، وقصيدته المشهورة بهذا العنوان : ( أبو تمام وعروبة اليوم ) يستدعي من خلالها مضامين قصيدة أبي تمام في ( فتح عمورية ) ويتكئ عليها بدلالات واسعة تدل على حنكته الفكرية ، وتجربته الإبداعية الكبرى ، وتزودنا بمفهوم إضافي لمعنى المعارضة الشعرية ، يقوم على استحضار التاريخ والأحداث والمواقف التي صنعتها الأمة ، وكانت فيها مقتدرة وبانية وقائدة ، أو كانت راضخة ومتهالكة وضعيفة ، وتوظف المعطى الفكري والنفسي في سياق جديد ، يضم رسائل قوية ، تمس كل المستويات المتصلة بالأمة ، يقول أبو تمام رحمه الله في مطلع قصيدته المشهورة :

السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتب
في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ

وعلى ضوء محتوياتها انطلق شاعرنا اليمني عبد الله البرذوني رحمه الله في كتابة قصيدة على منوالها ، وبمحددات تعالج الوضع القائم بقواسم جامعة ما بين اللحظات الشعرية المتناثرة على الرغم من اختلاف المضامين والمنطلقات والغايات .

قصيدة أبي تمام كُتبت بدافع تمجيد الفعل المنجز ، فتعقبت مظاهر الفرح ، وأشادت بالنصر ، وأَعْلَت من مكانة الأمة ، وأظهرت محاسنَها وصبرَها في الذود عن المحارم والديار ، أما قصيدة البرذوني فكانت على العكس ، تَتَأفَّفُ من الوقائع ، وتُحاكِم عروبة اليوم المتخاذلة مقارنة بعروبة الأمس الفائحة بعطر المجد والانتصارات ، قال شاعرنا في مطلع مغاير لمطلع قصيدة أبي تمام السابق :

ما أصدقَ السيفَ إن لم يُنضِه الكَذبُ
وأكذبَ السيفَ إن لم يَصَدُقِ الغضبُ

واستطاع الشاعر البرذوني أن يأخذ من الزمنين المتعارضين ما يريده ، ويوافق حدسه العقلي ، وتصور عاطفته الفنية المُرهَفة ، مما ساعده على تكوين آرائه ومواقفه المختلفة في الإشادة والاعتبار الإيجابي ، و أعانه على إظهار معاني التوبيخ ، والاستمرار في تعرية الواقع العربي القاتم ، متأسفا على ضياع تجليات الماضي المزدهر ، ويمكن لنا أن نتبين تلك المواقف على شكل عناوين مختصرة ودالة في الآتي :

1 – للسلاح دلالات : فعالية السلاح في المعركة لا تؤخذ من السلاح ذاته ، وإنما من المُستعمِل له ، وخلفياته الفكرية والحضارية، وأهدافه المنشودة ، وقِيَم النبل التي يرتضيها ، السلاح بذلك لم يعد آلة فقط وإنما صار ممارسة محددة بفكر وغايات قريبة وبعيدة ، وبعبارة العصر نقول تحول إلى تخطيط واستراتيجية للحماية والانتشار ، يقول :

بيضُ الصَّفاَئحِ أَهْدَى حِين تَحملُها
أيدٍ إذا غَلبَت يَعلُو بها الغلَبُ .

2 – مفهوم النصر : وله ارتباط وثيق بمعنى الإنسان الكلي ، فإذا جرى على يد الأقوياء لمجرد أنهم أقوياء فإن معناه سيبتذل ، وسينزاح إلى مجرد بيع وشراء بلا أهداف جميلة تخلده ، وتحافظ عليه على شكل مرجع من المراجع الكبرى للإنسانية جمعاء وهي تنافح عن إحقاق الحق والعدل ، ونصرة المظلوم ، يقول :

وأقبحَ النَّصرِ نصرُ الأقوياء بلا
فهم سوى فهم كم باعوا وكم كَسَبوا .

3 – علاقة العلم بالجهل : قد يتحول العلم إلى جهل ، وفي بعض الأحيان يصبح الجهل أفضل من العلم ، ويصدر من الجهال على صعيد النخوة ، والانتصار للقيم الإنسانية ما لا يصدر عن العلماء الذين يقررون دائما في مجرى الحياة ، وقد يكون قرارهم حاملا للبشرى والاطمئنان ، وقد يكون على العكس مشتتا وسلبيا كما يقع في الحروب ، وهذه الازدواجية المصاحبة للعلم والفكر المتحكم هي ما لامسها البرذوني حين قال :

أدهَى من الجهلِ علمٌ يَطمئِن إلى
أنصافِ ناس طَغَوا بالعلمِ واغتَصَبوا
قالوا همُ البشرُ الأرقَى وما أكلوا
شيئا كما أكلوا الإنسان أو شرِبوا

4 – المفارقات الكبرى المؤرقة لشاعرنا البرذوني في قصيدته : وهي ناتجة عن تلك المقارنات العريضة بين أوضاع العرب الماضية والحاضرة ، وكان رحمه الله بارعا حين انطلق من استفهام أبي تمام عن ما جرى للأمة بين لحظات المجد ، ولحظات المذلة المشاهدة في وقتنا ، يقول شاعرنا :

ماذا جرَى يا أبا تمام تسألُنِي
عفوا سَأروِي ولا تَسأل وما السببُ
يَدمِي السؤال حياء حين نسأله
كيف احتفت بالعِدا حَيفا أو النَّقَب ُ
مَن ذا يلبي ؟ أمَا إصرارُ معتصم
كلا وأخْزَى من الأفشينَ ما صَلبوا
اليوم عادت عُلُوج الروم فاتحةً
وموطنُ العرَب المسلوبُ والسلبُ

ومِن طرق معالجات الشاعر لتلك المفارقات الواسعة ما نلاحظه من تتبعات وانتقالات متتالية بين فقرات القصيدة تنبئ على أن شاعرنا كانت له معرفة تامة بأحوال الأمة الماضية والقائمة ، وبقدر ما كان يرجع إلى الوراء ليستمد منه مرتكزات الوجود المقرون بالعزة والكرامة كان ينفُرُ من الحاضر ، ويُسَفِّه رجالَه وأفعالَه ، ويتبرأ من مواقفه الملتوية التي تدل في حقيقتها على الخنوع والاستسلام ، يقول :
ماذا فعلنا غَضِبنا كالرجال ولم
نَصدُق وقد صَدَق التَّنجِيم والكتُبُ
حُكَّامُنا إن تَصَدَّوا للحِمى اقتحموا
وإن تصدى له المُستَعمِر انسحبوا
هُم يَفرِشُون لجيش الغزو أعينَهم
ويَدَّعُون وُثُوبا قبلَ أن يَثٍبوا
الحاكمون ووشنطن حكومتُهم
واللامِعون وما شَعُّوا ولا غَرَبوا
القاتِلون نبوغَ الشعب تَرضِيةً
للمعتدين وما أجدَتهُم القُرَب

وديدن شاعرنا في الرجوع إلى أبي تمام لم يَحِد عنه على طول القصيدة ، يحاوره ويسأله أسئلة طارئة وحارقة ، وبسبب حَيرة شاعرنا واتساع مداها وجه لأبي تمام سؤالا عن المواقف المبثوثة في القصيدة الجديدة ، وهل هي مواكبة أم خارجة عن السياق المعاصر المخزي ، وهل تحمل كذبا ، أو تتصف به ؟ .
لقد شك الشاعر في شعره ومواقفه حين جمع وتكلم على لحظتين متغايرتين ومتناقضتين في كل شيء ، فخاف أن لا يصدقه أبو تمام في ادعاءاته تلك حول مآل الأمة التي تركها حبيب قائدة للعالم والإنسانية ، وخلد مجدها الأثير في قصيدته : ( فتح عمورية ) وتركها على علم ونضج ، تنتج الفكر والحضارة ، يقول شاعرنا :

ماذا ترى يا أبا تمام هل كذَبَت
أحسابُنا أو تناسى عِرقَه الذَّهبُ
عُروبةُ اليوم أخرَى لا ينّمُّ على
وجودها اسم ولا لون ولا لقبُ
تسعون ألفا لعمورية اتَّقَدوا
وللمُنَجِّمِ قالوا إننا الشهبُ
قِيلَ انتظارَ قطافِ الكَرم ما انتظروا
نضجَ العناقيدِ لكن قبلَها التَهَبُوا
واليوم تسعون مليونا وما بلغوا
نضجا وقد عُصر الزيتونُ والعِِنب

مقابلات بين الأحوال جميلة جدا تسعى إلى البحث عن المفقود في واقع الأمة القائم ، ما دام أنها لا زالت موجودة ، وقد زاد عددها ، وتحسنت أحوالها ، وكثرت ادعاءاتها المتنوعة ، ولكن عندما نزن كل ذلك بقضاياها وما تتعرض له من هوان وكره يصبح السؤال عن السبب الحقيقي للوضعية المعيشة وهو المفقود المتواري إلى الخلف كما قلت مشروعا وذا قيمة إيجابية لفهم ما جري وما يجري .

هكذا يستمر شاعرنا في النبش والحديث بلسانين مختلفين : لسان الحال الموبوء ، ولسان الماضي المشرق ، وعينه على أمل قادم في المستقبل لمحو أثر هذه الظلمة الجاثمة على القلوب .

والخلاصة أن شاعرنا كان يستدعي أبا تمام رحمه الله من أجل أن يستمد منه الصورة الإيجابية المتوارية ، ومن أجل أن يوبخ القادة المعاصرين والمستصغرين لأنفسهم وقضايا أمتهم ، ومن أجل التطلع إلى غد مشرق تنمحي فيه كل الظروف القاسية ، وقد أعجبني كثيرا في هذا المقطع الدال على جميع ما سبق ، يقول :

حبيبُ وافيتُ من صنعاء يَحملني
نسرٌ وخلفَ ضلوعي يلهثُ العربُ
ماذا أحَدِّث عن صنعاء يا أبتي
مَلِيحةٌ عَاشِقَاها الجَربُ والحرب
ماتت بصندوق وَضَّاحَ بلا ثمَن
ولم يمُت في حَشاها العِشق والطربُ
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت
في الحُلم ثم ارتحَت تَغفُو وتَرتقِبُ
لكنها رغمَ بُخل الغيثِ ما بَرِحَت
حُبلَى وفي بطنها قَحطان أو كَرِب

أنه النداء الجماعي للأمة عبر تاريخها ووقائعها المتعددة ، فيه خوف ، وفيه رجاء وعِبر ودعوة للانطلاق من جديد لعل الظروف تسمح بتنظيم لقاء مستقبلي بين الشاعرين : أبي تمام والبرذوني رحمهما الله على بساط خال من العتاب والشكوى ، يتواصل عبره عرب اليوم مع عرب الأمس بكل تلك المتمنيات والإلحاحات المسطرة بالرغم من أن الآفاق تعدنا بغير المبتغى المرجو ، وتمطرنا بوابل من الخيبات والتأوهات والجراحات التي لم تندمل بعد ، ولا نعرف علاجا لها يوقف نزيفها المستمر .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button