لحظة تفكير

نور الدين العوفي: الطريق إلى التنمية ( 6 و 7)

6 ـ كل شيء، ولا شيء

قالوا : « لقد وضع أعضاء اللجنة لعملهم خطوطًا حمراء لا يقربونها ». رقابة ذاتية، مُسْبقة، متخفِّية. وقالوا : التقرير النهائي ليس سوى «جبل تمخَّض عن فأر». وقالوا أيضاً: جاء النموذج التنموي الجديد إمعاناً في الصيغة النيوليبرالية للنماذج السابقة التي أبانت عن فشلها الذريع. يقول الشاهد : كل هذه الأقوال «ضعيفة » للأسباب التالية. أولاً، «الخطوط الحمراء » التي يقصدونها، تلميحاً أو تصريحاً، تهم، بحصر المعنى، « صلاحيات الملك الدستورية » في علاقتها بمبدأ « ربط المسؤولية بالمحاسبة » خاصة، وبمنظومة « الملكية البرلمانية » عامة. في هذا القول ضرْبٌ من «التَّهافُت» لسببين اثنين : الأول، إن عمل اللجنة ينضوي تحت سقف الدستور، هي تشتغل في كنفه، ضمنه لا خارجه. الثاني، إن اللجنة لا شرعية لديها حتى تتخطَّي النص الدستوري، وتجاوز بنوده، بالزيادة أو بالنقصان.

ثانياً، في القول بأن « الجبل تمخض عن فأر » تحيُّزٌ منهجي (biais méthodologique)، ذلك أن الخيارات الجماعية لا تعادل مجموع الأفضليات الفردية. الأولى ترتيبٌ، وترجيحٌ، وتقريبٌ، وتوليفٌ. الثانية متشعِّبة، مُتباينة، مُتنافرة، ومُتضاربة، لا يجمعها جامع. لكلِّ « مغربُه الذي يريد »، ولكل صياغتُه الخاصة للنموذج التنموي الأفضل والأمثل. من « المواقع » الخاصة، ومن « المواقف » الذاتية، ومن « الزاوية الميتة » ل« الفردانية المنهجية »، لا من باب « المنهجية الشاملة »، التوافُقية، والمقاربة التفاهُمية، نظر البعض في تقرير اللجنة. لسانُ حال هؤلاء « ما لا يُدْركُ كُلُّه، لا يُؤْخذُ جُلُّه ». «كلُّ شيء»، أو «لا شيء»، لا منزلة بين المنزلتين. في فيلم « الفهد » للمخرج فيسكونتي المأخوذ عن رواية دي لاسيجوازا، يقول تانكريدي (ألان ديلون)، الذي التحق بالثورة، لعمِّه دون فابريستي (برت لانكستر) على سبيل الإقناع : « ينبغي أن يتغير كلُّ شيء، لكي لا يتغير أيُّ شيء ». في مجال التغيير، تكشف « الخبرة التاريخية » أن من يبْتغي « كل شيء » قبل الأوان، لا يجْني، في الأغلب الأعم، سوى « لا شيء »، ورُبَّ زارعٍ لنفسه، حاصدٍ لسواه.

ثالثًا، وأما من يزعم بأن النموذج التنموي الجديد لا يختلف عن القديم من حيث « النزعة النيوليبرالية » فهو مجانِبٌ للصواب، مُجانِفٌ للموضوعية، أو إن في قراءته للتقرير عيٌّ، أو شيء من حتَّى. قد يكون النموذج الذي يريده أصحاب هذا القول نازعاً منزعًا آخر، هم لا يُفْصِحون عنه، ولا يُحدِّدون شروطه، منزعًا يقتضي، فيما يقتضيه، قطيعةً تامة مع المسارات القديمة، ومسحًا للطاولة، وإعادة للبناء من الصفر. « كلُّ شيءِ » مِنْ « لا شيء ». الموقف الحدِّي ذاتُه، والتَّحيُّزُ المنهجي ذاتُه، والمقاربة الفردانية ذاتُها.

في اللاحق من التدوينات، يقول الراوي، سوف يتبيَّن للقارئ أن الطريق السالك إلى التنمية ليس بالطريق الخطِّي، بل ينتهج مساراتٍ مُتعرِّجة، مُتحوِّلة. النموذج التنموي الجديد تحوُّل في المسار، وتحويل للمسار. تحوُّل في السياسات الماكرو اقتصادية، وتحْويلٌ لمساراتها السابقة، المُقيَّدة بإكراهات « إجماع واشنطن ». تحوُّل في البنية الإنتاجية من التبعية والمناولة نحو المنافسة والابتكار، وتحويلٌ لسلوكات الفاعلين من الريع والمضاربة إلى المبادرة والريادة.

7 ـ الماذا، والكَيْف

يشهد الشاهد: لم تكن هناك « خطوط حمراء » ولا هم يحزنون. كل الموضوعات المتداولة في المجتمع تداولت فيها اللجنة، بلا استثناء؛ كل الأسئلة، المجهور بها والمسكوت عنها، خاضت فيها دون مواربة. بطبيعة الحال، لا يجد القارئ في التقرير سوى النتيجة التوافُقية التي تمخَّضت عنها المداولة بعد المناقشة، والمجادلة، والمُحاجَّة. لا يعثُر على الاختلاف، الذي لا تُخْطئه العين، بين « المشارب »، و« المواقف » و « المواقع » المشكلة لجغرافية اللجنة. سبق للراوي أن كتَب، قبل تنصيب اللجنة بشهور، تدوينة (بتاريخ 31 مايو 2019) عن « المنهجية الأغنوصية » (agnostique)، والتي تتطلب، عندما يتعلق الأمر ب « الضروري من التنمية »، وبالرؤية الاستراتيجية، التنصُّل من المواقف الذاتية، والمواقع الفردانية، والتماس المنفعة العامة، والمصلحة الوطنية. والمنهجية الأغنوصية هذه، منهجية موضوعية، تشتغل تحت « حجاب الجهل » John Rawls))، تُقدِّم المعقول والمقبول على المرغوب والمطلوب. وهي، أيضًا، مقاربة بنائية، إشراكية، تفهُّمية، تفاهُمية، وإجماعية، من مواردها الخبرة، والمداولة، والتوافق. قيل إن النموذج التنموي الجديد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهو من ثمَّ يحْبس برامج الأحزاب في مُربَّع الخيارات والتوجهات المُنزَّلة من فوق، ويحُدُّ من تدافع البدائل، ويُلْغي، في آخر التحليل، العملية الديمقراطية برمتها. قولٌ لا يستقيم بحال، ذلك أن التقرير يذهب إلى الأساسيات المستدامة، يضع مقدمات الوجوب ، وقواعد الارتكاز، ويرسُم الخيارات الاستراتيجية، بينما البرامج الحكومية مدارُها السياسات العمومية القصيرة والمتوسطة المدى. الأول جُمْلة، الثانية تفصيل ؛ الأول نظر، الثانية تحقيق. التوافق يكون على المقاصد من التنمية، أما الخطط، المحددة في الزمن والمكان، فهي ك «الأمور تتبع المقاصد »، وفيها اختلاف، وخلاف لا يبتُّ فيه سوى صندوق الاقتراع. التوافق يشمل، أيضًا، خريطة الطريق التي على ضوئها تترتَّب الأولويات، وتتحدَّد الكيفيات التي هي من شأن الحكومة المُنتخَبة. يشهد الشاهد : حصل إجماع، داخل اللجنة، منذ الجلسات الأولى المخصصة للتصورات العامة، حول مصفوفة الأولويات : التربية والتكوين، الصحة والحماية، النمو والشغل. وهو الإجماع ذاتُه الذي أمسى، منذ التسعينيات من القرن الماضي، « إدراكاً مُشْتركاًً »، مشاعاً بين الجمهور. حول « الماذا »، أي الغاية المأمولة من التنمية، لا تبايُن؛ الاختلاف ظهر حول « الكَيْف »، أي حول الطريق المُفْضي إلى التنمية. وبطبيعة الحال، لكلٍّ طريقُه الأمثل المؤدِّي إلى روما.

تساءل أحَدُ الأعضاء عن الوصف الذي ينطبق على النموذج « القديم » من حيث « الكيفية »، و « المنهجية الإجرائية »، والذي بِضدِّه وجب تمييزُ « الجديد». التمرين الجماعي خلص إلى أن النموذج « القديم » يقوم على التَّضاد، والتضارُب، والتعارُض، ويشتغل ب «التَّخْيير » بين هذا وذاك على نحو « إمَّا، وإمَّا »، بينما يسعى النموذج البديل إلى درْءِ التعارُض الظاهري بالجمع، والتوليف، وبتوظيف « واو » العطف الذي لا يعني الترتيب، والتعقيب بقدر ما يفيد المزاوجة، والمُزامنة.

‏مقالات ذات صلة

Back to top button