فنون وثقافة

الفنان الكبير محمد رشدي لمفرج يكتب مذكراته ل”كش بريس” (الحلقة 23)


مشاركتي مع الفنان العالمي Goran Bregovic    (تابع – 8 )
• مهرجان  Stimmen   بمدينة Lörrach   بسويسرا
• مهرجان   Caracalla بمدينة Roma   بإيطاليا

حلقت بنا الطائرة على بساط كنصيف، تشكل من سحاب كثيف، متماسك كقطن أبيض ناصع ونظيف، يخيل إليك أنك فوقه طفيف، تستطيع السير فوقه وتغدو كريش خفيف.. منظر ساحر من إبداع الرحمان، زانته خيوط أشعة الشمس الآفلة إلى الغروب بمهرجان من الألوان: شفق أحمر على جلناري، وأزرق سماوي فتان، صنع الله الواحد المنان خالق الإنسان ومنشئ الأكوان..   .. لم أشأ أن أحيد بناظري عن نافذتي الوحيدة، فكنت ألتقط بعض الصور لهاته اللوحات الربانية الفريدة، لكن لحظات الاستمتاع اعترضتها أصوات المضيفات والربان، معلنة قرب نهاية الرحلة وإجبارية ربط أحزمة الأمان.. وما هي إلا دقائق حتى استقرت بنا الطائرة بمطار مدريد عاصمة الإسبان.. بعد الإجراءات الجمركية الروتينية، خرجنا إلى باحة كبيرة انتظرنا فيها مرور سيارة أجرة تقلنا إلى الفندق، وأي فندق يا ترى!!؟؟  لقد اختلط علينا الأمر وتحول إلى سوء تفاهم آل إلى مشاحنة كلامية بين الزملاء حول اسم الفندق الذي سنقضي فيه ليلتنا قبل استئناف السفر إلى سويسرا ..!  كاد الخلاف يتسبب في قطعنا المسافة بين المطار والفندق مشيا على الاقدام، بعد أن اختفت كل سيارات الأجرة من باب المطار!! والمشكلة ببساطة تتلخص في أن هناك فندقان يحملان نفس الاسم: أحدهما من فئة الخمسة نجوم واسمه باراخاس، والثاني من فئة ثلاثة نجوم اسمه إكسبريس باراخاس وهو الذي حجزت لنا فيه السيدة أنطونيلا لقربه من المطار، وكانت قد أرسلت لنا اسمه في الفاكس الذي سلمه لنا القنصل الإيطالي بالدار البيضاء!! ولكننا للأسف لا نحب القراءة (…)

   وصلنا إلى الفندق متأخرين، واستقل كل اثنين منا غرفة.. كنا منهكين قد غلبنا الجوع والتعب .. وبعد تناول العشاء ارتمى كل واحد منا على فراشه، بينما نزلت أبحث عن حاسوب لإرسال بريد إلكتروني للسيدة Maria مديرة أعمال Goran ، واستقبال معلومات منها عن الاجراءات التي سنقوم بها عند الوصول إلى مطار بازل،  ومن سيكون في استقبالنا هناك . ثم التأكد من إمكانية السماح لنا بالسفر من مطار مدريد دون تأشيرة .. لقد كنت قلقا جدا لأننا نحمل جواز سفر مغربي، والتأشيرة الإيطالية لا تخول لنا الولوج الى سويسرا، ولا يمكن للسلطات الإسبانية أن تسمح لنا بالمرور!  وهكذا بت أتخبط من جديد فاقدا القدرة على النوم، خصوصا وأن طائرتنا ستقلع في الصباح الباكر وعلينا الاستيقاظ فجرا ..

   اتجهت نحو الاستقبالات لتسليم المفاتيح، فتفاجأت بموظفة الاستقبالات تطلب مني دفع ستة أورو مقابل استعمال ساعتي انترنيت، و11 أورو ثمن مشاهدة فيلم على قناة تلفزيونية !! وسلمتني فاتورة بذلك .. طلبت منها أن تمهلني بضع دقائق لأتبين الأمر!!  فقد كنت متأكدا أنني لم استعمل التلفاز إذ لم يكن لدي الوقت لاستخدامه. ولكني أدركت حينها أن زملائي في الغرفة المجاورة قد غيروا مفاتيح الغرف، فباتوا في الغرفة المسجلة باسمي!! وباستعمالهم التلفاز والقنوات الخاصة فيه تم احتسابها على غرفتي.. حينها عدت إلى الاستقبالات وأديت ما احتسب علي، وطلبت فاتورتين منفصلتين حتى أعطي فاتورة الإنترنت للسيدة أنطونيلا واحتفظ بفاتورة الفيلم ليعوضني الله فيها، إذ لا يعقل أن آخذ ثمنها منها..

    انطلقنا نحو مطار باراخاس بسيارتي أجرة، وعند تسجيل المتاع طلب منا تسليم جواز السفر والتذاكر. وطبعا، لم تكن جوازاتنا تحتوي على التأشيرات اللازمة، فحاولنا شرح الموقف للمضيفات والعاملين بالمطار، إلا أنهم لم يكترثوا لما نقوله وأصروا على أن تكون الوثائق كاملة، ما وضعنا أمام ورطة كبيرة زادها تأخر الوقت تعقيدا.. ولا زلنا كذلك حتى سمعنا أسماءنا يتردد صداها داخل جنبات المطار..  فجأة اتصلت إحدى المضيفات بمدير المطار الذي جاء مهرولا نحونا.. فشرحنا له المشكل من جديد، وفسر لنا الوضعية القانونية بأنه لا يمكننا السفر إلا بتأشيرة أو بتنسيق أو بأمر من السلطات عليا في بعض الحالات الاستثنائية.. هنا تذكرت الفاكس الذي سلمنا إياه القنصل الإيطالي بالبيضاء..  فطلبت من هشام أن يخرجه من محفظته ويريه إياه.. وما إن وقعت عيناه عليه حتى صاح قائلا:

  •  هذا هو المطلوب!!! إنه الترخيص الذي كان عليكم أن تقدموه !!  إنه يقوم مقام التأشيرة، وهو يخول لكم السفر إلى حين استخلاص تأشيراتكم بمطار بازل !

.. عدونا خلف مدير المطار مسرعين، وقام مشكورا بمساعدتنا في إجراءات التسجيل والجمرك. حيث وضعنا متاعنا كله دفعة واحة على شريط الأمتعة المتحرك. وركضنا بأقصى سرعة علنا للطائرة ندرك!!! ولحقناها في الثواني الأخيرة لحسن حظنا، وما كدنا نستقر في مقاعدنا ونربط أحزمتنا، حتى وجدنا أنفسنا نحلق والسحاب حولنا..     مر الوقت سريعا، إذ أن المسافة ليست بالبعيدة، ولكني استمتعت بما تجود علينا به الطبيعة من مناظر ساحرة، بقدر ما تسمح به النافذة المستديرة للطائرة.. وقد أحسست بدوار وصداع فضيع أثناء الهبوط بسبب المطبات الهوائية التي كانت تلاعب الطائرة من حين لآخر. وكم أعجبت بمنظر الركاب وهم يصفقون بعد أن حطت الطائرة بسلام تشجيعا

منهم لطاقم الطائرة وربانها وتقديرا لمجهوداتهم وعرفانا بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم، كما أعجبت بالطريقة الانسيابية التي حط بها الربان الطائرة على الأرض، فعلا.. احترافية عالية !!

     .. استقبلنا بالمطار شاب سويسري بشوش في الثلاثين من عمره، ترافقه فتاة ألمانية شقراء في العشرين لا تفتر عن التدخين.. وقاما بدعوتنا لاحتساء القهوة، ثم تبعنا الشاب لاستكمال إجراءات حصولنا على التأشيرات.. بعد ذلك اقتادنا إلى مكتب خاص به شباكان خلفهما شرطيان أنيقان استقبلانا بالترحيب والابتسام، ثم قاما بتسليمنا استمارات توجب علينا ملؤها بخط اليد ، في حين أخذا منا الجوازات لإتمام باقي الإجراءات.

    .. قمت مع خالي هشام بملء الاستمارات، بينما انشغل زملاؤنا بقضاء الأوقات بين المزاح والقهقهات.. فقد كان سعيد في كل مرة يخرج علينا بتصرفات مضحكة أو تعليقات.. حتى لباسه المغربي: الجلباب القصير والسروال القندريسي والبلغة (والذي لا يغيره أينما حل وارتحل) كان يثير استهجان وفضول المارة في كل مرة !! ومن عاداته التي لا يستطيع الاستغناء عنها استعماله للنفحة (طابة)! والتي كان يضعها في (جعبوقة) من فضة مزينة بنقوش دقيقة، تغلق بمشد معقود بسلسلة أنيقة..

.. أخرج سعيد جعبوقته وأفرغ منها على ظهر يده اليسرى، ثم أنشأها سطرا واستنشقها أمام ناظري أحد الشرطيين الذي اعتراه الفضول ليسأل سعيدا عن محتوى هذه الجعبوقة وعن مغزاها.. مع أن سعيدا لا يجيد غير العامية، لكنه أدرك فحوى السؤال، فأومأ بيده ونفخ في السماء كأنه يدخن سيجارة!! وقال:

  • Tabaco .. Tabaco ..

     ضحك الشرطي بعد أن فهم حركات سعيد، وطلب منه أن يمرر له الجعبوقة من خلف الشباك الزجاجي لخوض تجربة النفحة المغربية التقليدية.. وليته ما فعل!!

    .. فتح الجعبوقة، وسطر على ظهر يده اليسرى خطا بنيا طويلا وعريضا، تماما كما رأى سعيدا يفعل! وما كاد يستنشق بإحدى فتحات أنفه الكبير ما سطرت يداه..  حتى أطلق صرخات قوية وسقط للتو خلف مكتبه مغشيا عليه.!!  كان الشرطي ممشوق القامة مفتول العضلات رغم سنه المتقدم، ولكن النفحة (الوادلاوية) الشمالية كانت على المسكين قوية، وكادت تودي بنا جملة إلى الهاوية!!

    .. حدث كل هذا بين ظهرانينا فى اللحظة التي كنا نتخبط في ملء الاستمارات التي كانت أغلب الخانات بها باللغة الإنجليزية أو الألمانية.. ولكن أخطر ما في الأمر، أن الشرطي الثاني حين وقع زميله على الأرض، أوقع من يده الجعبوقة وتدحرجت.. فخيل إليه أنها ربما تكون قنبلة يدوية أو قنبلة مسيلة للدموع، خصوصا حينما لاحظ صديقه يصرخ ويغطي وجهه قبل أن يغمى عليه!!  كما أن مظهر سعيد الغريب بالجلباب العربي والبلغة سيوحي مباشرة إلى كونه إسلامي متطرف أو إرهابي !! إضافة إلى أنه لا يملك تأشيرة الدخول إلى سويسرا شأنه شأن باقي الزملاء!!!  وهنا لم يتردد الشرطي في أن يشهر مسدسه موجها إياه نحونا مباشرة!! وصار يصرخ باللغة الألمانية (التي يتحدث بها جل سكان شمال سويسرا) دون أن نفهم منه حرفا.. ولكن لسان حاله يقول:

  • لا تتحركوا من أماكنكم وإلا أفرغت مسدسي في أدمغتكم…!!!

  .. تسمرنا في مكاننا مفزوعين، بينما تقدم الفتى السويسري محاولا تهدئة الشرطي مخاطبا إياه بلغته.. ولولا رضا الله ورضا الوالدين لكنا في عداد المقتولين !!.. نظر الشرطي إلى صاحبه الملقى أرضا وهو يحاول الجلوس والاتكاء على الحائط وراح الفتى السويسري يشرح للشرطي أن ما حصل مع صاحبه طبيعي، لأنه يستعمل النفحة لأول مرة.. ليتدخل سعيد بالعامية مقاطعا:

  • رش عليه الماء فوجهه باش يفيق!!!

     ولا أدري كيف فهمه الشرطي!  حيث أعاد المسدس إلى غمده وناول كأس ماء لزميله ثم رش ما تبقى في وجهه.. فاستعاد الشرطي الضخم وعيه وصلب طوله وهو يضحك على حاله ومآله وانقلب الوضع إلى ضحك هستيري بعد أن كاد يتسبب في أزمة سياسية ودولية لا تحمد عقباها!!! وعدنا إلى إتمام ملء الاستمارات بسرعة وعند تسليمها طلب منا الانتظار بعض الوقت إلى حين تحضير التأشيرات.. وحدثتني نفسي حينها أننا لن نحصل عليها بعد كل ما حصل.. فلربما انتقم الشرطيان منا نتيجة حالة الذعر التي وضعنا سعيد فيها جميعا!

   .. مرت عشرون دقيقة تقريبا، وطالت المشاورات بين أخذ ورد في المكاتب الزجاجية الشفافة بالداخل، ليخرج الشرطي الضخم إلينا في النهاية يحمل الجوازات، ولكن كانت علامات القلق وعدم الارتياح تعلو محياه!! وكاد يصدق تخميني لولا أنه توجه نحو الفتى السويسري ليسلمه جوازاتنا وعليها التأشيرات السويسرية أخيرا.. وليخبره أيضا بأننا أمام مشكلة جديدة!!

(يتبع..)

* أستاذ الموسيقى، كاتب من أسرة كش بريس

‏مقالات ذات صلة

Back to top button