‏آخر المستجداتفنون وثقافة

أذ/ م علي الخامري: في يوم عيد الشعر يتضايق مني الشعراء

هذا العنوان خلاصة مستوحاة مما جرى من نقاش قليل عقب إدلائي برأيي حول الشعر المعاصر ضمن حلقة صالون أركانة التي انعقدت مساء الإثنين 21 مارس 2022م ، وربما أن موقفي قد أزعج بعض الحاضرين ومنهم قامات شعرية مقدرة ومحترمة ، ولهذا قررت أن أدون ما قلته ، وأنشره على الملأ :

الشعراء المعاصرون أُقَسمهم إلى ثلاثة أقسام أساسية ، أقبل منهم القسمين الأولين ، وأرفض القسم الثالث وهو المستحوذ على الساحة بنماذجه المهترئة نتيجة عوامل متحكمة ستُذكر ضمن المقال :

القسم الأول هم الشعراء المُبَرَّزُون ، وأقصد كل شاعر أثبت هُويته الشعرية بكل قوالب الشعر المتاحة اليوم انطلاقا من القصيدة العمودية وإلى ما استقر عليه حال القوالب الفنية المعاصرة والرصينة .

القسم الثاني وأسميه بالشعراء المُستَقَرِّين ، أي أولئك الذين يبدعون على منوال مختار ، وبطريقة واحدة لا يزيغون عنها ، ولكنهم مجددون ومجتهدون ، ويحاولون أن يطوروا مسالكهم الإبداعية بصدق ومعرفة ، وإصرار متواصل ومحمود .

القسم الثالث المتطفلون على مجال الشعر ، والملوثون لأريج عطره ، وهم كُثُر في وقتنا المعاصر بسبب تَيَسُّر وسائل الكتابة والنشر ، وبسبب ابتعاد النقاد عن ممارسة أدوارهم ، وكثرة المحاباة في مواقفهم ، والرضوخ لقوة التيار الفاسد والجارف لكل محاسن الشعر .

إن هذا الوضع القبيح والمسيء للشعر قد نتجت عنه أضرار كثيرة ، بدأت تهدم قلاع الشعر المتراكمة ، وتفرغ النفوس من حرمته ، وتزيل عنه تلك الهالة القدسية المصاحبة له بطهر وممارسة معرفية غائرة ومتنوعة في الوجود ، ومتجذرة في حياة الإنسان ودواخله وأحاسيسه .

الضرر الأول هو استفحال ظاهرة كتابة الشعر بنبرة سردية ، والتطويلُ في الشعر وعلى مر التاريخ لم يحسنه إلا القليل ممن توفروا على شروطه المعرفية والفنية ، وهو آفة في كل نماذج شعرنا المعاصر تقريبا ، ويتنافى مع هوية الشعر ، ويجرده من صفة التكثيف والاكتناز التي تظهر لك براعة الشاعر ، وتدلك على مقدرته الفكرية في التحكم والبسط والإخراج .

وبهذا فالقصيدة المعاصرة قد تحولت إلى ما يشبه الملاحم الشكلية ، يتيه صاحبها في وسطها ، وتكثر معانيها وتتشتت بلا روابط مقنعة ، تفتقد للعمق ولجدوى ذلك التطويل السيء الملاحظ ، وتترجم لنا هشاشة المعرفة الإبداعية لدى الشاعر ، سواء تعلق الأمر بالشعر العربي ، أو بغيره وهو ما يؤدي إلى خلو الشعر المعاصر من مقوماته الأساسية على صعيد الفكر والحبك ، والصنعة اللغوية المطلوبة .

الضرر الثاني هو قلة الصور الفنية وضعفها ، فلا يمكن أن نتصور شعرا بلا صور تدل على موهبة الشاعر في جعل اللغة والفكر ملكا له ، ويجب أن ننتبه هنا إلى ما يقوله بعض القراء المبتدئين ، أو أصحاب المواقف المتذبذبة من أن مفهوم الصور في الوقت الحالي يخالف مفهومها القديم ، وهذا صحيح شيئا ما ، ونتفق معه على جهة توسيع معنى الصورة في الفكر وعلى مستوى الآليات المستخدمة ، ولكن نحن نقصد كل تلك المفاهيم القديمة والجديدة ، ونلاحظ أنها قليلة في تجارب الشعر المعاصرة وضعيفة جدا ، ولا يحسن صاحبها استعمالها ، ويُؤتَى بها فقط للتباهي والتقليد ، والتطويل والإسهاب المخل بالمعنى ، وبمفهوم الشعر نفسه ، وهي نتيجة مباشرة لتحكم النبرة السردية في القصيدة المعاصرة .

الضرر الثالث هو شيوع النمطية ، والمراد أن الشعر المعاصر أضحى متشابها ومتكررا ، ومن كل هذه الكثرة الملاحظة على الساحة يكفيك أن تطلع منه على بعض النماذج لتحصل الكفاية ، فالشعراء استحلوا كثيرا أن يسيروا في إبداعهم سير القطيع ، ينهلون من حياض واحد ، ويتباهون بالسير على منواله ، ويظنون أن الشعر الحقيقي هو ما يتوافق مع ما يميلون إليه ، وما يحسنونه ويتماشى مع واقع الضعف الفكري والفني الملاصق لذواتهم ، وفي مطلع سنة 2022م نشرت مقالتين متتابعتين عن ظاهرة النمطية حين رأيتها قد تغولت وأضحت خطرا داهما للشعر في حدائقه اليانعة ، أقتطف منهما ما يلي : ( في دنيا الإبداع الشعري المعاصر أضحت النمطية هي القاسم المشترك بين أكثرية المبدعين ، التشابه البغيض، والتلاقي المتكرر إلى حد الذوبان ، وانعدام الحواجز الذاتية الفاصلة والمُفَرِّقة هو الميزة الأساسية في أكثرية تجارب الإبداع الشعري المعاصر ، ولدى أغلبية المبدعين .

هذا الخلل القاتل يظهر في فنون القول بدرجات مبالغ فيها ، ويجافي أو يحارب الخصوصية التي تعتبر أهم عنصر في عملية الإبداع بعد حضور الموهبة ، والحصول على الدربة المطلوبة ، والتمكن من الوسائل  .

وحددت بعض أسبابها في التالي :

1 – الضيق والضعف المشاهدان في الزاد المعرفي اللغوي والفكري لأغلبية الشعراء ، والرغبة الملحة في آفات التقليد المحدودة في الزمان والمكان .

2 – ضغوط الزمن المعاصر الكثيرة ، وفقدان الشعراء معها لأي أمل في الحياة ، بالإضافة إلى ظاهرة الاغتراب الملاحظة وهي تزداد اتساعا وسوداوية بسبب الانكسارات المتتالية على الإنسان ، وفقده لأي أمل في النجاة مما يحيط به من ظلام جراء استخدام القيم الإنسانية والكونية استخدامات نفعية على مقاسات المتحكمين والنافذين دوليا ووطنيا .

3 – توهم أكثرية الشعراء المعاصرين أن الإبداع الصحيح يكمن في تتبع تلك النمطية ، ولا منجاة لهم منها إذا أرادوا أن يصبحوا شعراء ، وتقبل بهم مملكة الشعر ، فينطلقون في رحلة التقليد الأعمى التي تطمس مع الأيام ينابيع موهبتهم ، وتحول نفوسهم إلى أجواخ مجردة من الإحساس الذاتي ، ومن الطابع الأهم والملهم في عملية الإبداع ) .

وكل هذا يؤكد ما قلته سابقا من أن اختصار معنى الشعر في التجارب المعاصرة بخلفياتها وطبائعها المتقاربة يفسد الشعر ، ويفسد الذوق ، ويفسد الإبداع بصفة عامة ، خاصة ونحن نتوفر على هذا الكم الكبير من الكتابة الشعرية وتطوراتها المختلفة والمتعددة منذ العصر الجاهلي وإلى الآن ، فأين حق المواصلة والتفاعل مع كل الأزمان السابقة ؟ وأين دور التنويع الذي يجب أن نحافظ عليه من باب أنه يعبر عن نفسية الإنسان ، وحقيقة الإبداع ، وحرمة التاريخ الفني لدينا التي يجب أن نسعى إلى الاهتمام بها ، وإشاعة مضامينها وهوياتها الفنية المكتملة والمدركة في أذهاننا ، ونحيي تلك الصلات الفنية العديدة الضامنة للتواصل العفوي المستمر ؟! .

وبالمناسبة فتجارب الشعر العربي المعاصر كما وصلت إلينا عند بعض الشعراء المحدثين من أمثال السياب والبياتي ونازك والبرغوثي…..كانت تستلهم أعمالها ، وتبدع على نسق يجمع بين كل التجارب المتقدمة وإن اختلفت الصيغ المعاصرة ، وتعددت وتنوعت إلا أن الروح بقيت هي العنصر الرابط والواهب للحياة والاستمرار .

إن الشعر ليس مزحة شخصية ، وليس فعلا ذاتيا يخول لصاحبه أن يفعل ما يشاء ، إنما هو ملكة جماعية ، متواترة بشروطها الفكرية والمعرفية بين الناس ، قابلة للتجديد والتطوير ومسايرة الزمان بفطرة الأذكياء ، وحكمة كل الأجيال المبدعة ، ولا ينبغي أن نتوهم أنها مملكة بدون حراس ، أو مجْدٌ يغري المُتَنَطِّعين والمتطفلين الذين غَصَّت بهم الساحة هذه الأيام ، ولا تَقبل المزاحمة الفجة ، أو التعلق بالأشخاص ، ولا تُثبت حقيقتها إلا للأصلاء ممن تكون لهم موهبة واطلاع واسع ، وطريقة تميزهم عن غيرهم بما يضيفون ويجدون ويجتهدون ، ولا تعترف بمن يتشبه ، ويتطاول ، ويحاول بجهله وتسرعه أن يركب على تراث الآخرين من القدامى والمعاصرين .

وفي الأخير طوبى لكل استثناء معاصر نقي ، ذي موهبة وقدرة على الإبداع بشروطه وحدوده المعروفة على مر الأزمان .

مراكش في : 23 مارس 2022م .

‏مقالات ذات صلة

Back to top button